
Balthus, The King of Cats, 1935. Source: wikiart.org
حكاية الأخ العائد والأم التي أصبحت قطة
عندما رن جرس الباب، كنا نجهز طاولة الطعام. قلنا في صوت واحد: “من؟” فلم يجب أحد، وتوجهنا جميعًا إلي الباب. وعندما فتحناه، ارتمى على الأرض فتى بجسد نحيل. وأثناء حمله عن الأرض ووضعه علي الكنبة الحمراء المجاورة لباب الشقة، سمعنا صوت ماما يأتي من المطبخ تسأل عمّا يحدث في الخارج.
بعدها كانت تقف علي عتبة المطبخ وفي يدها سمكة كبيرة. قالت:
– ده ابن كلب ، خرّجوه بره.
ثم قذفته بالسمكة، واتجهتْ إلى غرفتها.
التقط الفتى السمكة بفمه وراح يأكلها. لكنه حين لاحظ وقفتنا المتسمرة ونحن نتطلع إليه في صمت بصق ما في فمه، وعادت ملامح التعب إلى وجهه ثم حكى إنه أخونا، أي نعم، أخونا الذي تُوُفي منذ سبعة وعشرين عامًا وكان عمره حينها ستين دقيقةً فقط. وإنه بعد وفاته ظل يعمل بجهد بالغ في شق الأنهار وتجميع الحطب وإضرام النار حتي ينال لقب العامل المثالي والذي من ضمن جوائزه تذكرة عودة إلى الأرض بأي شكل يحبه. وقال بحزن إنه استنكر معاملة أمه التي جاء من أجل أن يرمم قلبها المكسور عليه.
لم يكن همنا صدق كلامه أو كذبه، ما كان يهمنا حقًا هو اعتراف ماما به. فإذا حدث ذلك، سيُشبع لنا شيئًا ناقصًا في حياتنا. كانت حياتنا خالية تمامًا من الذكور. في صغرنا كان لدينا تصور أن أجساد الذكور تشبه أجسادنا تمامًا، فقط شعورهم لا تنموا بالقدر الكافي. فضلًا عن أن وجوده سيجعل الأعباء الثقيلة تنتقل إلى كاهله عنا.
وقف بعضنا يطيّب خاطره وذهب البعض الآخر إلى غرفة ماما التي أخذت شيئًا من الدرج، وعندما رأتنا خبأته في صدرها ثم استدارت إلينا وقالت بصوت حاد: “خرجتوه بره؟“
أربكنا السؤال لكننا أدركنا الموقف وعاتبناها، كيف لم تخبرنا بوجود أخ لنا توفي وهو صغير؟ قلنا لها إنه قد ينفعنا فهو مازال صغيرًا ولديه القدرة على العمل في المزرعة أو في حظيرة الخيول أو على الأقل الوقوف على بضاعتنا في السوق. وذكّرناها بكثيرين عادوا بعد موتهم مثل ابن عم جمعة الذي دهسته سيارة وهو في الثالثة، وقد أصبح الآن جزارًا كبيرًا في سوق الجمعة يدر على أبيه مالًا كثيرًا. ذكّرناها أيضاً بابنة طنط نادية التي توفيت بمرض نادر ثم عادت وأصبحت نجمة الشاشة الأولى. قاطعتنا وقالت: “مش هتخرجوه يعني؟” وقبل أن نسألها لماذا لا تريده هبّت واقفة واتجهت مباشرةً إلى خارج الغرفة، والحمد لله منعنا هجومها عليه بالمقص الذي أخرجته من صدرها. فلو فشلنا لعنّفنا أنفسنا في اللحظة التالية، كيف نتركها تقتل إنسانًا هو أخانا، يالنا من فاسدين.
قال أخونا العائد بعد محاولة الهجوم عليه:
– عايزة تقتليني يا رقية؟ والله لأقول لعيالك على كل حاجة.
ثم دخلا في شجار وارتفعت أصواتهما. كانت ماما عند غرفتها وهو بالقرب باب الشقة ونحن في المنتصف نفصل بينهما بأعدادنا الضخمة، نحاول أن نصغي لكي نتبين ما يقولان. لكننا فشلنا.
دام الشجار لفترة طويلة ولم نعرف كيف نوقفه، ثم فجأة انقطع التيار الكهربائي فتوقف الشجار تمامًا ومكثنا في المنتصف حتى نمنع اقتراب أي منهما من الآخر.
عاد التيار ثانية فعاودت أمي الشجار، لكنها لم تجد ردًا مقابلًا من أخين، واكتشفنا اختفاءه فظهرت على ماما علامات الارتياح، كأن حملاً ثقيلا انزاح عن صدرها. وتظاهرنا رغم حزننا الشديد بأن شيئًا لم يحدث. ثم سمعنا صوت قطة تأتي من المطبخ فركضت ماما إلى المطبخ وهي تمسك في يدها بالمقص، وما إن دخلته حتى انقطع التيار الكهربائي مرة أخرى ولفترة أطول هذه المرة.
عندما عاد التيار لم نجد ماما، ثم سمعنا فقط صوت عراك قطط في المطبخ، ثم قفزت قطتان على طاولة الطعام ومنها إلى النافذة المفتوحة. أسرعنا باتجاه النافذة، نظرنا إلى أسفل وإلى أعلى فلم نجد شيئا. فرحنا لتخلصنا أخيرًا من ماما، ولأنه أصبح الآن من الممكن أن نحصل على حريتنا. وأعلن كل منا عن خطة ينفذها قريبًا، وسعدنا بالحياة السلسة القادمة. شعرنا بالجوع، فقمنا إلي المطبخ لنستكمل تجهيز طاولة الطعام.
أثناء تناولنا للطعام، قفرت قطة على الطاولة، دون أن نعرف من أين جاءت. كانت مصابة في عينها اليمنى. تطلعنا إليها محاولين معرفة أهي ماما أم أخونا؟ لكننا فشلنا. فردت القطة جسدها على الطاولة، ثم أغمضت عينيها. نظرنا إلى بعضنا منتظرين من سوف يلقيها من النافذة، لكن كانت للقطة مهابة شديدة منعتنا من ذلك. فألقينا إليها قطعة سمك، وعدنا إلى الأكل الذي كان قد برد.
حكاية حريق الأرشيف والأجندة التي تعرف
فور وصول الأستاذ مصطفي إلي الشركة التي يعمل بها، تم استدعاؤه إلى الشئون القانونية لاستجوابه فيما يعرف عن حريق الأرشيف الذي حدث بالأمس. وعندما أنكر معرفته بالأمر، وجهت إليه تهمة حرق الأرشيف مباشرةً وقيل له إن من مصلحته أن تتم تسوية الأمر قبل تدخل الشرطة، فتوجه الأستاذ مصطفى إلي أجندته على الفور.
في بداية عمله كان موظفًا فاشلًا كما قال عنه رؤساؤه، وعندما يُسأل عن مهامه يقول بكل أريحية إن أحدًا لم يطلب منه شيئًا فينفجر فيه رؤساؤه غضبًا. ثم اهتدى إلى حل أن يسجل في أجندة ما يُطلب منه، فإذا اتهمه أحد بالنسيان أو بمخالفة التعليمات تكون الأجندةهي الحكم.
وبعد حين أصبحت الأجندة شيئًا رئيسيًا في حياته. صار مصطفى يدوّن الأحداث اليومية. وإذا أراد أن ينجو من اتهام أو لوم يأتي منها بما يدعم كلامه، وإذا أراد أحد دليلًا على كلامه يريه ما كتب فيها.
أمام محقق الشئون القانونية، أخرج مصطفى الأجندة من حقيبته الجلدية. فتح الصفحة التي كتب عليها تاريخ الأمس، فوجد مكتوبًا فيها إنه قام بحرق الأرشيف. وعلى الرغم من يقينه بأنه لم يقم بذلك، اعترف الأستاذ مصطفي بالاتهام الموجه إليه فتم رفده دون أن يأخذ مستحقاته المالية، والتي أبقتها الشركة كتعويض عن التلفيات.
خرج مصطفى من مبنى الشركة وذهب إلى بار. جلس علي طاولة. أخرج الأجندة من الحقيبة وتفحصها ورقة ورقة وهو يشرب، فصُدمَ من عدد الجرائم التي ارتكبها وهو لا يعرف عنها شيئًا. قال لنفسه إذا وجد أحد الأجندة ستكون مصيبة كبرى، فهو لن يستطيع إنكار التهم التي ستوجه إليه. وبعملية حسابية بسيطة، قدّر عدد السنوات التي سوف يقضيها في السجن، فضربه الجزع. خرج مصطفى من البار والأجندة في يده، سار مسافة طويلة ثم توقف. وجد نفسه فوق كوبري، ومباشرةً ودون تفكير رمى نفسه في النيل، تاركًا الأجندة خلفه على الأرض.
