Quantcast
Channel: тнє ѕυℓтαη'ѕ ѕєαℓ
Viewing all articles
Browse latest Browse all 608

عائلة جادو: أحمد الفخراني |فصل من الرواية الجديدة

$
0
0

Lincoln Agnew, “Marx’s Lesson for the Muslim Brothers”. Source: nytimes.com.

لم أمت ولم أحيَ. أفقت على ضوء شديد السطوع فكان والظلام سواء. أشعر بأنفاسي. قلبي ينبض. رقبتي سليمة، ولا أثر للنحر إلا من ألم خفيف يداعب الرقبة، كأني جرحت أثناء الحلاقة لا مقتولا على يد جلاد. لا أثر للدم الذي كان واحدا من شهود قتلي الصامتين. أتضور شوقا إلى التدخين. ألا يبطل الموت الشوق إلى ما نحب؟
تحسست ما حولي في ظلمة النور العاتية. أهذا قبري؟ أدفنت بشكل لائق أم صرت عويلا إضافيا لروح مغدورة. قمت من مرقدي، كنت قادرا على تحريك ذراعي كحي. لكني أدركت علامة موتي. ساقاي تحركتا بلا إرداة مني نحو خيط من الظلمة انشق وسط النور. أهكذا يكون الموت إذن؟ سير بلا إرداة في مسار بلا خيارات. هذا لا يحسم أي شيء، فقد كان ذلك علامة حياتي السابقة.
وصلت إلى خيط الظلمة، أزحته كستار. فرأيت طريقا مستقيما، على جانبيه شموس خفيفة اللهب معلقة في أعمدة إنارة، وحجارة، خلاء الطريق المرصوف بالأسفلت، خلاء الرمال التي تنتظر الإسمنت والألمونيوم. مصارف، ظلمة بيضاء، وبيوت قليلة متناثرة لها عزلة الكوخ والقصر دون هيبتهما. شاحنات عمياء تمر من حين لآخر، براميل قمامة. أتذكر هذا الطريق، ففيه دفنت لويس. دفنت الحقيقة. أهذا جحيمي؟ أن أسير في نفس طريق جريمتي بلا توقف؟ لماذا وحدي أتحمل عبء دمه؟ لو كانت أنفاسه تحملت قليلا، لصار تحفتي الفنية، لربما صار مصارعا أقوى من عبد المولى أو جمرة إغواء نادرة. ألم يقتلك من أرسلك؟ أين هو الآن؟ في جنة الكوميونة أم يستكمل جحيمه؟ الدين أفيون الشعوب، هذا لا يرضي تجار الأفيون. يقولون إن في الجنة قصورا لمن جمعوا الحسنات، أما الفقراء إليها الذين لم يجمعوا إلا حطب الخطايا، فسيوقدون بها. وأنت تقطع البحر من بلادك المترفة كي تخبر العمال في النهاية أن ماركس حي. لو كنت معه في الجنة، هل ستطلبان نساء وقصورا أم العدل؟ هل ستحتجون من أجل الخطاة ضد إقطاعي الحسنات؟
من بعيد، رأيت رجلا. ما إن اقتربت حتى ميزت الصلعة وعباءة التشبث برخاء الأيام الزائلة. أسعد جادو، حماي ورسول موتي. ابتسامته المطمئنة أثارت حنقي. لم أكن أرغب في التقدم نحوه، لكن لا إرادة لي على قدمي.
كلما اقتربت منه، ازدادت ابتسامته لطفا، فيشتعل غيظي أكثر. لا أرى في هذا اللطف إلا تشفيا ولا في تلك المحبة إلا إخفاء لزهو انتصار إرداته. أمطمئن أنت الآن أن حصولي على ليلى مستحيل؟ ميت أمسك بتلابيب الحي حتى صارا معا في طريق واحد لشواهد القبور والجريمة.
لحظة وصولي إليه، قدماي تجمدتا أمامه، وانطفأ حقدي كله، فأدركت أن لا فائدة هنا للحب والكره، لا رهانات ولا عزاء أو فرح، حيث لا خاسر ولا فائز.
عبرت وجوه أخواتي البنات كأطياف، تختلط في أفواههن البشارة وزغاريد استقبالي والنذير وعويل البكاء على مصيري. اختفين سريعا فلم أدرِ لمَ البشارة ولمَ العويل.
أخذني جادو من يدي، مضينا فتحركت قدماي معه. سألته: “هل الموت بتلك البساطة، أهذا جحيمي، طريق طويل، أم أن نهاية الطريق هي الجحيم؟
قال ضاحكا: “لا موت لميت، أنت كذلك منذ دفنت لويس، فدفنت الحقيقة، ذبحك حدث لتحيا، ذبحك لم يحدث“.
أشرت إلى الجرح في رقبتي، ألمه الخفيف حقيقي أكثر من سيري مع ميت في طريق خال، بل إصبعه بريقه، ريق موتى. عبر بإصبعه على أثر الجرح. قال: الآن.. اختفِ. ذهب الألم. شكرته بلا امتنان حقيقي، فربت على كتفي بحنان أب. قلت ساخرا: ها قد جاءتنا الفرصة لتبادل المحبة في الموت. قال جادو: أخبرتك أنك لست ميتا.. ولم أكرهك يوما. قلت: لم أنا هنا إذن؟ هل مررت بكل هذا الألم كي أعرف أنك لا تكرهني. أجاب: كان بإمكانك تجنب الألم، لو أدركت، أرسلت إليك الإشارة تلو الإشارة، لكنك أنكرتها جميعا، أرواح الأحياء شديد العكارة لذا ففهمهم شديد البطء. لا عجب أن الله لم يكتف بالإشارة إلى وجوده. احتاج الإنسان ليفهم ثلاثة أديان، ثلاثة كتب وجيشا من الأنبياء.
رسالة الله كانت بسيطة: أنا الكامل الوحيد. لا تبحث عن الكمال في أصنام الصفة الخارقة وتفرغ للذة نقصانك. ورسالتي أيضا كانت بسيطة: عالمك انتهى.. أعرف طريق نجاتك و كنزك المفقود.
أجبته ضاحكا: لم تكن إشاراتك أكثر من حفل إزعاج ورعب. أصر ببراءة: كان ذلك أوضح من الشمس.
أكمل مفترضا شغفي: حصولك على الكنز، مشروط بإنقاذ عائلتي. لكني لم أكن مهتما حقا، فسألته مغيرا مسار الحديث: هل يمنحنا الموت الإجابات؟
أجاب: حصلت هنا على أفضل الإجابات حتى عن الأسئلة التي لم تشغلني.
هل الله موجود؟
أحيانا.
هذه ليست إجابة.
كنت في خلوتي أستريح فجاءني طير، طلب أن يعيد الله روحي إلى جسدي كي يطمئن قلبه. فرجوت الله ألا يستجيب، فجسدي أكلته الحياة قبل دود القبر، فلم تعد روحي إلى جسدي. فاطمأن قلبي وتمزق الطير من خيبة الأمل.
هذا لا يثبت شيئا!
ألم أقل لك.. أفضل الإجابات.
هل الجحيم موجود؟
أحيانا.. تقول الشائعات إنه موجود لكل من تخيله وبشر به، في قاعه يجلس شاعر يدعى دانتي،  أعتقد أنه ألف شيئا ما يدعى الكوميديا الإلهية، لم أجد قراءتها هنا مسلية، لكني عرفت من آخرين أنه وضع الناس في الجحيم كإله وقدم نفسه كقديس، أعتقد أن أشياء كتلك لا يمكن أن تغتفر.
لا معنى لهذا إلا أن الجحيم موجود.
_ محتمل.
و الجنة؟
موجودة قطعا.. يقول البعض إنه رآها تظهر وتختفي، لا تبزغ إلا في الظلام، لكن الأغبياء يخشون الظلام، يعودون لانقاذ أرواح ذويهم، ليدخلوها بالنهار، لكنهم لا يجدون إلا صحراء.
لا يعني هذا إلا أنها محض سراب.. أي عبث.
سمعت أيضا أن عذاب دانتي، ضوعف، لقد قُيد ظهره إلى ظهر محبوبته بياتريتشي، لا يراها ولا تراه، لكنهم يقولون إنها منذ قيدت إلى ظهره، وقد عرفت روحه السعادة في قاع الجحيم. “كرّم بهائي في جهنّم بما أنّه تألّق في الدنيا “.
وبياتريتشي.. وما ذنبها؟
ذنبها.. أن الملائكة يقرأون بورخيس.
لكن تلك ليست أفضل الإجابات.
حسنا لقد عرفت شيئا على سبيل اليقين.. النعمة الأزلية، أعظم النعم: الوهم.. وهم الحرية التي زرعت فينا كشيء أصيل، لولاها لضل الإنسان وما تلطف توحشه.
الحلاق صار فيلسوفا ويعرف دانتي وبورخيس.
أخبرتك.. هنا المعرفة سهلة كالهواء والماء ولا قيمة لها على الإطلاق.
يا ليتني أحصل على إجابة واحدة.. يحق لي هذا بحق الموت نفسه.
أنت حي وستعود لمسار اللعبة من جديد.. لكن تلك المرة ثمة شروط.
صمت منتظرا أن يحركني الفضول، لكني لا أحمل فضولا تجاه أي شيء. لا أثق أن هناك نجاة، بل محض تكرار للشقاء أملا في الفردوس.
قال متجاهلا بلادة حماسي، كأنه يخطب في حشد:
قامت القيامة، رفعت الأقلام وجفت الصحف. عالمنا القديم انتهى، لا فارق فيه بين حي وميت، لكنها قيامة ما نعرفه وبداية لما لا نعرفه. أمل جديد لا يدين بشيء لقواعد اللعبة القديمة.
نجاة من المسارات الفاسدة، بمسارات طازجة وحية سيفسدها نجاة قلة، تصطفي نفسها لتخرق العالم الجديد، بخلود مصطنع، سيبورغ نخنوخ الهواري يا بن الهوارية، حيث الخالد يتحكم في الفاني، ويمنع بحياته التجدد الذي يهبه الموت، لا يملك نخنوخ ورفاقه إجابة على هذا، رغم أن الآلهة الجدد سيمتلكون كل الوقت للإجابة، لكنهم لن ينفقوا منه شيئا، سيحطمون البدايات الجديدة، سيحيلونها من الطزاجة إلى الوحشية. لن تكون عائلتي بالنسبة لهم إن نجت إلا ما مثله القرد للإنسان، هيئة منفصلة واحتقار دائم.
الجرذان ستأكل عالمنا القديم يا ابن الجوايدة، ستنهش الأحياء والأموات. هنا عرفت الطريق إلى النجاة. ضللت الطريق مرارا. لكني امتلكت بحسن الكلام وضربات الحظ، ومساعدة الأرواح المغدورة لأخواتك البنات، خارطة كنز. الخارطة مراوغة، سأمنحها لك، لكنها لا تساوى شيئا دون معاونة الدليل، رجل عالق بين الحياة والموت، اعتلى صدر النبوة، ثم تحطمت سمعته تماما، قبل أن يعود إليه صدق نبوته كالضجيج وعضة الناموس وعواء الكلاب الضالة في الليل، خافتا كأعمدة الإنارة الذابلة وكأكياس تطير في الهواء إلى اللاشيء، وحده، مثلنا جميعا، يصارع الجميع بلا رفقة ولا سلاح ولا أنصار، بلا طبقات تتصارع أو عبيد يحطمون آلة السيد. يمكنك اعتباره حيا إن رأيته وميتا إن عرفت أنه صار نصف مجنون، مهووسا، ينكر كل ما آمن به، ابن هواه. اسمه ماركس، كارل ماركس، يعرف طريق الكنز. سر الخلود الأبدي. طريق السيبورغ الشعبي. الخلود هو عملة المستقبل. من امتلكها، امتلك الثراء والنجاة. كل ما أطلبه أن تصل إلى هناك بعائلتي. وكل ما تجده من جواهر وكنوز وأموال هو لك إن أردت.
سخرت من فكرة أن يكون دليلي هو عدو مولانا، ماركس.
سألته: إن كان يمكنني العودة من الموت، فلماذا لا تفعل أنت؟
قال بنفاد صبر: أنت لم تعبر إلا إلى وهم صممته بنفسي، أملك الكثير من الوقت هنا، والصداقات، أدفع الرشاوي أحيانا. أنت عالق في حلم بين الحياة والموت. لقد ساعدني جسدك المنهك من اليأس والانتهاك على هذا.
فكرت أن كل ما علي أن أفعله إن كانت تلك هي الحقيقة، أن أنتظر حتى أفيق، كي أنفض كل هذا عن نفسي، سأعود لخدمة مولانا طائعا، لكن شيئا في نفسي بدأ ينمو من جديد. الأمل كنبتة ناعمة تنتظر الفرصة لخنقك. سألته: من أين يبدأ الطريق للكنز المفقود؟
نصف الطريق معي.. النصف الآخر مع نخنوخ، هو يعرف أوله وأنا أعرف آخره.. حيث الاتجاهات خدعة ودرب الأربعين ينتهي في كركوك بالعراق لا مالي.. حيث لا يصل بك طريق الحرير إلى الصين، بل إلى درب الأربعين نفسه. أما الدليل فسيعينك على عبور المخاطر والقتلة والعصابات والدم المهدور والأرواح المغدورة.
نخنوخ، أبي؟
سيعرض عليك مهمة، اقبلها.
قال إن هناك مهمة لا يصلح أحد لها سواي.
بل قال إنك لم تعد تصلح لسواها.. اعذرني لو أن الفارق مهين للكبرياء.. هذا يجول في خاطرك وأستطيع قراءته.
ماذا لو قبلت؟
عليك أن تعرف ضريبة الخلود والحصول على الكنز.
وما الضريبة؟
أن تُقتل حقا وصدقا.
ألمأُقتلبمايكفي؟
لم تفعل بعد.. محض وهم.
  كيف تخبرني أن حصولي على الخلود مشروط بموتي؟!
سأمنحك ضمانة.. أيهما أحب إلي.. أنت أم عائلتي؟
عائلتك.
اقتل العائلة.
أنت مجنون.. ترغب في موتنا جميعا.
لاموت إن نجوت بهم وعبرت إلى الخلود.. هل تظن أني حقا أرغب في إيذاء عائلتي؟
كل ميت يرغب في إمساك تلابيب الأحياء إلى قبره.
لقد انتهى الوقت.. ستعود الآن إلى عالمك.
هل تثق حقا في قدرتي على العبور بهم؟ لم اخترتني؟ لم تفعل عندما أهديت الخاتم لصديقك كإشارة ليصون العائلة من بعدك.
أنت ميت حي، لا أمل لك إلا الموت من جديد لتحيا، كما أنك كيس صفن لمعرفة لا أهمية لها إلا في تلك المهمة، كما أسميت نفسك.. لكن سببي الخاص هو أنك نذل. الحياة علمتني أن أحتقر الأنذال.. لكن الموت علمني أنهم يستطيعون النجاة من الجحيم ومن الحياة
أتظن حقا بعد كل هذا أني استطعت النجاة.. لقد خسرت كل رهاناتي.
لقد انتهى الوقت.. تذكر: الموت خدعة..الاتجاهات خدعة.
اختفى جادو، اختفي الطريق. تدريجيا اختفى الظلام، وعاد النور ساطعا حد العمى. ثم تبينت من وسط العمى، وجه مولانا. كقمر مكتمل، مبتسما لي. اقتربت.

Viewing all articles
Browse latest Browse all 608

Trending Articles