«الذين يستحبون الموت على الكفر…» – أسامة بن لادن
«وعمرَّ الله موضع خروجها من آدم بالاشتياق إليها، فحن إليها حنينه إلى نفسه لأنها جزء منه، وحنت إليه لأنه موطنها الذي صدرت عنه» – ابن عربي
«فلم تهوني ما لم تكن في فانيا» – ابن الفارض
ذات يوم، اضطررت للكف عن الحشيش.
كان لي قرابة العام مفجوع في أبي، زاد استهلاكي خلالها بصورة كبيرة. عندي موسوعة مصوّرة عن النبات الذي أحبه، عرفت منها أن أحد أسمائه في الهند «مسكّن الفجيعة». خمس سنين منذ انتظمت على التدخين، وكل يوم أكتشف له مزايا جديدة. عيبه الوحيد أنه يقصيني. لم أعد أنتبه لحديث الآخرين. بعد وفاة أبي، خصوصاً، حدست أني أتعامل مع الناس في مساحة ضيقة وبعيدة. الجنس نفسه خلا من المشاركة، ما كان يزيده إمتاعاً مجرداً من المعنويات.
أهتم بجسد فتاتي الأمريكية ربما أكثر من ذي قبل، لكن كمن يضغط أزرار ماكينة تنتج البلل واللدونة. شهقاتها كأنها كركرة محرك السيارة وعصف الهواء وأنت تسرع على طريق خاوية: وشائج التحكم في متعة القيادة. وحين تعقب المضاجعات سگاير ألفّها لي وحدي (فتاتي لا تدخن)، كنت أستشعر هوة مروعة أسفل السطح الذي جمع جسدينا. فأعاجل بجعلها تتأوه من جديد. كأننا في صندوق مختوم بعبارة «قابل للكسر». لا أدعه يتعطل لحظة عن الاهتزاز. إذا بكت وقالت إن كثرة المضاجعة أنهكتها، سأغادر إلى حيث يمكن أن أستمني دون أن أشعر بشيء.
فقط لا أنسى أن هذا يحدث في اليوم التالي على ابتلاع أقراص الإكستاسي (ليس وحدي، ولكن بلا فتاتي)، شرط أن يكون الحشيش جيداً وهي في مزاج شهواني. الإكستاسي من شأنها أن تشحذ حاسة اللمس وتدرأ الوهن إلى ما بعد زوال الحبور. لكن مع مرور الساعات، يحل بالجسد خواء كأنه تجويف خلفّه انخلاع ضلع ضروري.
حينئذ أوقن بفقدانها: الشرخ أوسع من أن يُرأب دونما أعود أدراجي عبر أنبوب أنسحب خلاله منذ خمس سنين. هذا الخواء سيستتبع حشيشاً أكثر، والإفراط في الحشيش يؤجج الشوق للإكستاسي. بعد وفاة أبي، حدست أن الحال مع فتاتي مثال على علاقتي بالعالم. وجع التعميم. ما عاد بوسعي إنكار أنني في سيارة لا أسيطر على سرعتها. لهذا، لأنني أوغلت حتى فقدت النطق، لأن المتعة الخرافية ما عادت تعوضني عن الناس، كان لابد أن أكف. واليوم، بعدما زالت الأقراص وتبخر كل قنب العالم، بعدما صارت الأمريكية تلك تهويمة تقلها أجيال من الذكريات، يحلو لي ادعاء أن انقطاعي عن الكيوف حدث بإرادتي.
فقط فجيعتي في مسكّن الفجيعة لا تترك شكاً أني اضطررت، جبراً وبأقسى سبيل محتمل، للكف عن الحشيش.
فتاتي المسكينة.
لو لم تقترن بضاضتها بمشهد أبي المتخشب ليلة الوفاة! وحده الإمتاع المجرد يدوزن الشهور السابقة على أيلول ٢٠٠١، أيلول نهاية العالم. يومذاك، قبل أن أعلم بشيء، سأفيق على طائرتين مارقتين تخترقان أعلى توأم معماري في دماغي، عاصمة الوعي.
يبدو أنهما تنفخان من جنباته مناطد الدخان الأسود المحفوفة أواسطها بالنار، غير أن البرجين والبناء الصغير الذي يتوسطهما تتفجر كلها من الداخل، تنطبق على نفسها في تكوين يشير إلى هدم منظم بالثيرمايت («نقبه على شونة» الشيخ أسامة).
مشهد الطائرتين ليس سوى تمهيد سينمائي لانهيار سيكلفني، بموازاة الأحداث، أكثر من حرب على الإرهاب. لقد رأيت الشعب العائش في رأسي يفنى. الناس بحجم حبات السمسم تقفز إلى حتفها المحقق من فرجات النوافذ. والمادة الرمادية قبالة جمجمة السماء من أسفل كأطلال البرجين التوأمين تبتلع أجسادهم (وكنت كالأجهزة السرية تماماً، أدبر للقتل الجماعي وأدعي اللاوعي، أبحث عن شياطيني المذنبة في ضمائر الآخرين). قبل أن أعلم بشيء، كان اللهب يتشبث بالثياب، والأسطح ترتج وتتصدع. السماء تنشق عن سواد مؤجل منذ مصرع الرجل الكبير. لم أُرهَب في حياتي بمثل هذه الحدة. الأحباب المقيمون عندي لا أكاد أتعرف عليهم من فرط ما شوههم الهدد. سألاحق المجرمين. (المجرمون الوهميون في كهوف الجبال البعيدة.) مثل هولاگو سآتي على بغداد. السمسم كله إن لم يكن معي فهو علي. كان يجب أن أنتبه لما يصير للشعب في غيابي. أعتني به. أحبه…
كل الأفق هلع وتراب.
حتى العراف الزنجي الراقد في قورتي منذ فطنت لضرورة المراجعة، هو الآخر فط جزعاً يروم الهروب. لعلني سمعته يتنحنح بصوت ما عدت أطيق غلاظته، أو تشوفت قبحه عن قرب لأول مرة منذ زمن طويل. زعق في وجهي بأنه ممتن لنجاته وعلى الفور شرع يتنبأ: تتوالى القذائف على أفغانستان ويُشنق صدام حسين وتُحرم النبات الذي تحبه. تركته يلوذ بالدنيا الواسعة من مخرج مائي أسفل عيني. لكنني مثل عجوز يلعن مُنجّم صباه الذي كاد ينساه، بعدما يتأكد من صدق تكهناته، سأعرف في الشهور التالية أن العراف كان على حق. وبنزق وجبروت المحافظين الجدد، أقاطع الأمريكية وتاجر الحشيش الصعيدي الذي أخلص لي طوال مدة ارتباطنا، رفاق الإكستاسي وبائعي البانقو. سأمر حذاء سراديب الغورية كآثم لا تسعفه قدماه على ارتياد محفل الاقتراف.
وعلى خطى هانم تتخفف من مصاغها، أتبرع بقطع ممتازة وأقراص غالية، مسحوق كأنه ذهب مطحون في الأكياس، وعبوات صغيرة مصفوفة بعناية: ثروة من الكيميائيات. سأرد الحقوق لأصحابها – مايستتبع خلافات ومآرب–ودونما أخبر أحداً بأمري، أقفّل الحسابات.
كمن يبتر ذراعه مكابراً بعدم حاجته إليه، سأختار كومة زبالة على وشك الزوال بالقرب من رصيف بعيد، أدفن في أطلالها علبة جميلة من خشب الصندل العطر منشأها فاس، كنت أحفظ في تلافيفها كل عدتي ومتاعي: الكيوف وورق البفرة وماكينة لف السگاير وقطع الكرتون والأكياس. بحركة واحدة هادئة في ذيل مشوار تافه، سأودع خمس سنين من عمري قبراً أقرب من مكان ما رأيت أبي ملفوفاً في القماش الأبيض. لكنه، عكس جبانة البلدة النائية، لا يمكن الرجوع إلى زيارته.
عشية الحادي عشر من أيلول، كانت القاهرة تشمت على استحياء في نائبة مانهاتن، عاصمة الدنيا.
وبدا لي أن التاريخ مجرد تمثيل باذخ لوعيي. حين أنظر إلى مفاتن فتاتي، أرى أبي ممدداً في جلبابه يلفه صمت وتصلب لم يبق معهما شك –لن يجيبني إذا وجهت له الكلام.
اليوم، رغم ارتباط الحشيش بالشبق، أجتهد لأتذكر من هذه الفترة أي شهوة. لا شيء سوى الانضباط على قضاء وطر بالغ الجفاف. جسم لا تولّد ألفته الأمان. وعاء خوف، بلا مودة. وبين العمل اليومي المسموم و«القعدات» التي ما عدت أنتظرها لأمارس طقوس التدخين (كما ينبغي) وسط حلقة أنس تبرر ترف البطء والسكون، يلهيني تلاحق المضاجعات عن هوة أنبأني عراف زنجي بحجم حبة السمسم أني أتهاوى إلى أعماقها في القريب العاجل. هواء عابر أنبوب الغياب، هكذا سمعته يتمتم من مضجعه الآسن في قورتي. أن أرقد من جديد على البوابة. بدأت رحلة الرجوع في الأنبوب.
وإن تعاطيته بمنطق الفناء، الجنس ليس غاية في حد ذاته… يومذاك لم تكن قد تراكمت في جوفي ذخيرة الروائح والتقاطعات. لم يكتمل معجم التنهدات وصرخات النشوة، أو يُتقَن تأثير تعديلات الوضع والحركة على إيقاع الزفير. تقديري الاستثنائي لسحبة القدم وميلي للألم المقنن كلاهما في موضع الاستشراف (أمارسهما من بعد كمن يسترد إرثاً مسروقاً أو يبصر محيطه بوجد بعد انجلاء الدخان). فبدا، بحسب الذاكرة الخائنة، أن كل خطوة أقطعها فتح جديد لجيوش دولة الحياة. لماذا إذن، في الاستعادة، لا يخالجني حس المغامرة أو الاكتشاف؟
أجتهد لأسترجع جسد الأمريكية التي شهدت خبرتي الأولى بانتهاء عمر (لم يكن الموت قبل أبي سوى إعفاء عادة ما يكون محموداً من مسئولية اللقاء بالآخرين). خارج المخاطرة المعطوفة على ابتياع الكيف، لا شيء سوى زهوة السيطرة على جسد لا أحسه لي إلا في حدود ما أسيطر عليه. ولا تعبير عن هوية. جسد منزوع الروح، يتأود لأصابعي المدربة حديثاً كسيارة أقودها على طريق خاوية فأنتشي بكركرة المحرك وعصف الهواء. ومن المضاجعة تحت التأثير حتى الإياب التدريجي إلى حيث عادت اللذة مناسَبة للمعرفة بالوحدانية، تترامى كثبان المعاناة.
بين أيام الحشيش والآن، كل الأجساد فاترة وبعيدة.
وحده حاضري الجنسي يحضرني، مع صغيرتي التي أحبها، حيث بهجة توحّد البدن والدماغ. لأنني، في زهو أعيدت صياغته، أتملك روحها. بتطبيقها على صدري أسترد ضلعاً ضرورياً فقدته حين جئت الحياة. اليوم، بعيداً عن الذكرى الملتبسة، أستحضر اللحظة المعجزة حين رأيت جسد صغيرتي التي أحبها. عراء كالقرنفل. لحظة تتمثل ببهاء باهر.
أستثمرها في التأكد من أنه، خلاف الرهبة والفجيعة والإمتاع، لايزال في الدنيا سطح يمكن أن يجمع جسدي بآخر. أسفله صلب. ومعمار دماغي الرابض فوقه غير مهدد بهجمة إرهابية. أنفاسي أنفاسها. عضلة قلبي تضخ الدم في أوعيتها. أقول «أنتِ لي»، دونما يأسرني سلطان التحكم في جسد لا يهمني من حضوره سوى تعدين المتعة المتاحة. ثقلي فوق لحمها الخفيف كالأسود على الأبيض في صورة فوتوغرافية تتبدى معالمها أمام عيني. جيلاتين الفضة. وحين تجاور ذَكَري يدها الصغيرة كسمكة شبار تتراقص على الشاطئ، تغدو ذاكرة متحركة يحدوها تطور التفاصيل.
اليوم حياتي كلها شوق مشروط بالفراق. أموت كي لا يبرح أنفي أريج جلد الصغيرة!
بعد أن كففت عن الحشيش، أصبح تحميض الأفلام التي أصورها ضمن ضروب العلاج. أن أجعل لي آية. في وحدة الموجوداتالتيأرتد إليها مثل حيوان زاحف يتسلق الهرم الكبير،كأننيالربوالنبي معاً. وعلى درب تتدرج إنارته، هكذا، تجلت المحسوسات لوعيي الضامر في غياب مثيرها السحري. قبل بضعة أيام كان كل شيء فاتناً وكثيفاً، والآن لا شيء سوى فزع وغياب. انكسرت عيني. تعلمت أن أهجع إلى مساحة ضيقة غائصة في سوائل التظهير والتثبيت، رفقة مكبر متهالك أطبع عليه نتاج الأفلام التي حمضتها، نور أحمر ضعيف يدثرني.
وتتالت محسوسات أُشرف على نقلها من واقع بالكاد أحتمله إلى الضوء الثابت على ورق سميك. فضة زائلة. بتؤدة جنونية، آبت الشهوة إلى جسدي. كنت أتخبط، مع صف من النساء اللائي عرفتهن في هذه الفترة، أستكشف سبباً آخر للذة. الطاقة فيّ، لكن لا جبر في متعتهن، ولا آخر للشعور بالكسر. مرة بعد مرة أزايلهن إلى نفس الصورة. لعلني أستجمع الخبرة المبتغاة. بعد عمر آخر، لأُرضي الصغيرة. لعل الانهيار ضروري ليفوح أريجها.
ليس سوى حور عين، للشهداء. ولأن هذا ما صار معي، عملياً، بالتزامن مع أحداث أيلول الأمريكية: حين اضطررت للكف عن الحشيش استشهدت (أو انتصرت، ما الفرق؟) لم أتجاوز انهيار الأبراج الثلاثة فحسب، بل سارعت بوقف إطلاق النار في حروبي الجائرة على الإرهاب. سامحت أكثر من مجاهد بحجم حبة سمسم لمّا اكتشفت أنهم – حتى هم – يعملون لصالح المخابرات المركزية. وتحول شكل خريطة مانهاتن المألوف منذ أيلول ٢٠٠١ من شارة عذاب واقتتال إلى لواء انطلاق صادق.
أن أعترف، وقت أكون تعيساً، بحقيقة تعاستي.
مع الوقت، وأنا لأول مرة أحترم فجيعتي في أبي، وأتخذ من الطقوس المحيطة بالحشيش دون الحشيش نفسه سوقاً لتجارتي الجديدة، كأنني أُبعث عبر جهنم الانهيار والتوق الأخرق – مدة وجيزة تستبقها الرحمة – إلى فردوس لا تعتمد لذّاته على غير وعيي. وفرحت أن وعيي بريء براءة صغيرتي التي سألتقيها. كولد يتعلم المشي في غياب أبيه، كنت أعيد اكتشاف طعم السكر ولسعة البرد، طرب الموسيقى والنغم العفوي الذي تعزفه أصوات السيارات في المساء، ملمس الماء على الرأس ودفعة الحماس التي تجلبها القهوة. كل شيء جديد ومخيف، لكنه بديع على نحو دائم يجعله أقرب إلى الجنة بما لا يقاس. وأنا كل بضعة أشهر يهيأ لي الصعود إلى روضة أعلى.
أحسب فردوسي جزيرة أشبه بمانهاتن نيويورك، لكن رياضه درجات مثل طوابق توأم معماري سامق. وأنا ساكنها المنتقل من دور إلى الدور الذي فوقه، من انتصار تدمغه نهاية علاقة إلى انتصار لا يخلف شعوراً بالانخلاع، لأن شيئاً لم يعدني بالتئام في البداية، وإن كنت أخاطبهن دون نية بنفس اللغة. قبل شهور كنت تحت الأرض حيث المعدن المشتعل السائل (دليل استخدام الثيرمايت).
الآن رياضي الفردوسية مصفوفة عمودياً، لا أشعر بمسئولية كبيرة تجاهها. والأجساد الوافدة رغد جزائي. بضع لحظات فقط أحملها في رأسي، نادراً ما يتكرر فيها جسد سواي:
- فتحة الساقين التي تبرز فرج واحدة خرجت منها لتوي ونحن راقدان «خلف خلاف» حين لهاثها طلباً للمزيد: «أنا هأفطس».
- الانحناءة الفجائية لأخرى ضخمة تناولني مؤخرتها ونحن واقفان بثيابنا، ونفاد صبر مجرفتي آيس كريم الفانيليا بالفريز العملاقتين المنفلتتين من جينزها الأزرق نحو عانتي.
- خنوع وجه ثالثة خمرية إذ تجلس فوقي، تستمتع بتسول ذروتها وهي على وشك الحدوث؛ لا تنفق حتى أصفع وجهها فعلاً على سبيل الإيذان باللذة.
- أو شهقة رابعة حين أجعل ركبتها عند ثديها وثقل جلستي الجانبية يثبّت ساقها الأخرى مفرودة…
عرفت أنه، من غير النبات الذي أحبه، ما كان شيء ليبقيني مع الأمريكية التي ارتبطت بها قرابة خمس سنين. لكنها – وحدها – عرفت جسدي عشية الكارثة. ولولا اختلاط صورة فرجها بالفروج التي تومض لحظياً في ذاكرتي على امتداد فترة النقاهة، ما بعد انفصالنا، ربما ما كان الحادي عشر من أيلول ليستدعي جزيرة مانهاتن بمثل هذا الوضوح على هيئة فرج:
فرج كوني عملاق، استوعب طاقة الحشيش وطاقتي دونما يحقق شيئاً سوى إعلامي بضرورة الالتئام. (وطوال هذه السنين، أنا لم أر منهاتن.) أن تأتي صغيرة أحبها ترد لي ضلعي الضائع. أو تَعِد برده. سليماً. فلا تغيب. أو لا يكون غيابها بهذه البساطة.
أكتب لك أنتِ، حتى تعرفي.
ولكي لا يقول قراء السوء إني أحتفل بفتوحاتي. أي فتوحات تترك قائدها مفرّغاً ويتيماً؟ (النصر هزيمة اليائس، لكن ثمة من تستثيرهم ألوانه كأقاصيص أبضاي كاذب. يظنون سجل الألم مباهاة. هم أقرفوني. لا سبيل إلى حمايتك سوى افتراض أنهم ليسوا هناك.) أكتب – أقول – لطفولة عينيك، فرحة عينيك، حب الحياة وحب الحب في انطفاءتهما على نوم محكوم بالعناق. وللعناق ذاته، أكتب. ذلك التشبث الذي يصالحنى على الوحدانية. للهاثك وضحكاتك وانفلات جسمك (بغير غنج)، ثم غنجك الذي يشبه أريجك والبذاءات المهموسة كالبرق بخجل عنيف (لحظة وتسكتين، كأنك لم تنطقي الكلمة). أكتب لشَعر لا يُرى في بقاع غير متوقعة بامتداد جغرافيا يطمئنني ارتيادها من الطراوة إلى التماسك (وبالعكس)، أستشعره كمارد يؤوب للشجر. لانثناءة غير متوقعة وقلق قابل للاحتواء، أو لجنس هو غاية في حد ذاته… أكتب – يعني – للأمل المتحقق حيياً في مغادرة مانهاتن: الكف – من بعد الحشيش – عن السياحة بارتفاع توأم معماري لم تُسكِنني رياض فردوسه المصفوفة عمودياً في ذاكرة مدينة لم أزرها، وإن تزامنت مع خروجي من جهنم الرابضة أسفله، ما بعد انهيار أبراج دماغي.
لا شيء بعد الاستشهاد سوى الفناء. أكتب لك لأنك – هكذا – فنائي.
عشية موت أبي، كأنني كنت أعلم، صاحبت الأمريكية إلى بيتها حيث يمكن أن أطفئ شعلة خافتة جداً قبل أن تأتي المخابرة الهاتفية. كنا انتهينا لتونا من عشاء رسمي. خلعنا الملابس الضاغطة وبسرعة أدركنا ضرورتها كأنما بالسحر – بروتينية أيضاً – قبلتها وولجتها واهتززنا. ما كدنا نعتدل حتى رن هاتفي المحمول وسمعت صوت أمي، كما توقعته تماماً، أن تعال. بلا تفسير.
وما كان ثمة مجال لمجادلة جارنا الذي لحقني في غرفة أبوي، حيث وجدته في الجلباب الدرداري على ظهره إثر دخولي المتأني. أغلقت الباب، ممتناً لسكون البيت الذي فرضته أمي على الحضور: لا نحيب ولا صراخ. ما كان ثمة مجال لطرد الجار . إخباره أن لا شأن له. مناولته لكمة تعبر عن شعوري. في هذه اللحظة دون غيرها، أي خروج عن المألوف من جانب ولد المتوفي يصير ردة فعل عاطفية تستدعي تدخلاً من شأنه أن يزيدني غيظاً. لا أظنني تدبرت الأمر كما أحكيه اليوم، لكنني حدست بشروط اللحظة. وفي امتناني، كنت حريصاً على الوقار. أغلب الموجودين يوافقون جارنا الرأي، على كل حال: في الغرفة الآن ملائكة لا يصح إزعاجهم. لا أذكر صوت القرآن ولا وتعبيرات الوجوه. فقط وقفتي الممتعضة بعدما فتحوا الباب علينا، أنا وإياه، أنا وهو، أنهو… ولم أكن قد غنمت بغير دقيقة أو دقيقتين.
ما كان ثمة مجال لإنكار أن ملائكة تجاور الجسد المتيبس دون أن أراها، أو أن وجودي إلى جواره مزعج. فنظرت إلى أبي أتساءل إن كان يجب أن أقبله أو أسلم عليه؟ نظرت ولم أفعل شيئاً. الجسم الملقى على السرير يشبهه في كل شيء، لاحظت. كل تفصيلة في وجهه وأطرافه، نظرة عينيه وتوزيع شعر الذقن على وجهه. سحبة ذراعه ولون أظافره. حتى بثور مرض السكر على ساقيه… غير أنه – وهذا ما أهدرت عليه أهم لحظة في تاريخي الشخصي – ليس هو. ليس في الجسم الملقى على السرير شيء من أبي إطلاقاً. كأنه تابوت من البلاستك اللاصق مفصل على الجسد ومنجز بعناية معجزة. أبي ليس في جوفه رغم كل شيء. ولعلني أردت أن أصرخ فعلاً: «ماذا فعلوا بك يا بابا؟ أين خبأوك؟ الملائكة أولاد الكلب أخذوك قبل أن أقول إلى اللقاء؟» فقط صاحبت الجار إلى الخارج كما أراد. وحين ارتد الباب من خلفي، كنت على يقين بأن الغرفة بكل ما فيها ومن فيها، ليس فيها أبي.
كان عندي قطعة زيرو/زيرو شقراء من أجود أنواع «الملكي» المغربي. لابد أنني أومأت لأكثر من وجه متطفل. قبلت أمي ببرود ونفذت إلى غرفتي. وكنت سعيداً بأن عندي الليلة حجة جيدة توفر علي البيات عند فتاتي. على الفور وجدت علبة جميلة من خشب الصندل العطر منشأها فاس. فتحتها وأخرجت ورقة بفرة أفرغت فيها ثلث سيگارة. قربت شعلة الولاعة من الحشيش ورحت أفركه بين إصبعي. وارتحت لما رأيت فتاته مثل «بروة» الكاوتشوك تسقط على التبغ بغزارة، تسقط وتسقط فوق دخان السيگارة في قلب ورقة البفرة. تركتها لحد ما غطته.
.
أبريل 2009
