ليس أخطر ما أنتجته ثورة يوليو (أو انقلاب يوليو) هو ما يسمى بـ”حكم العسكر”، بل في كونها مثلت أو تسببت بوضوح في إحداث شرخ واسع في الضمير المصري. لأنها أولا أول سلطة “مصرية” تحتكر الحكم بلا منازع (فلا ملك ولا إنجليز)، ومن ثم فقد كانت تمهيدا لمواجهة الشعب لذاته وإن استغرقت هذه المواجهة عقودا خصيلتها ما يحدث الآن. ولأن هذه السلطة لم تحتكر الحكم باعتبارها سلطة منتخبة بل استثنائية، وهو ما جعل فكرة “الاستثناء” تتحول إلى قاعدة سياسية بشكل متناقض تماما مع طبيعتها. وهي ثالثا احتكرت تمثيل الضمير العام (المبرر لهذه الاستثنائية) وبالتالي وضعت نفسها أمام شرط مستحيل وزائف.
ويبدو أن المناخ الليبرالي السابق على الثورة (بكل مشكلاته) لم يكن صنيعة المجتمع المصري، ولا السلطة الي حبت لخيار اللبرالي، بل فرضه نوع من اقتسام الفضاء السياسي لم يسمح لهذه السلطة الممثلة في حكومات منتخبة باحتكار المجال من جهة وبالتالي باحتكار فكرة الضمير العام. وهو ما انعكس حتى على النشاط الذهني والثقافي عموما. فلا قيادة ثقافية تمثل مركزا للفعل والمرجعية، ولا “شلة” بالمعنى الذي شهده المجتمع الثقافي بعد الثورة، بل مثقفون وفنانون أفراد. ولأول مرة يتشكل زبون اجتماعي يتوجه إليه الكاتب: فمن تكتب لهم جماعة أبولو، غير زبائن مجلة الرسالة، وأنصار طه حسين يختلفون عن أنصار العقاد. وهكذا. ولا يعني أن هذا الزبون الاجتماعي كان جامدا.
من كانت له خبرة بسيطة ببائعي الكتب القديمة كان يعتاد أن يجد لدى بائع ما مكتبة كاملة قام بشرائها أخيرا. تكشف المكتبات التي ينتمي أصحابها لأجيال عاشت قبل “يوليو” عن مزاج أصحابها، لقد كانوا محامين ومحاسبين، وموظفين إداريين ومعلمين..إلخ. وكانت مكتباتهم تشي بتوع كبير في الاختيارات مع نوع من التركيز يكشف هوى صاحب المكتبة الأصلي. ولم يكن قد جاء الوقت الذي تصبح فيه قراءتك لكتاب لمحمود شاكر مثلا (مجرد قراءتك) دليلا على الرجعية. ووضعه أمامك على طاولة كاف ليطرد عنك بعض الأصدقاء أو ليثير التهكم، رغم أن قراءة كتاب، وهذا مفهوم بالضرورة، لا تعني أبدا تبني أفكاره، وهي مسألة في غاية السذاجة والسخف.
قلت يوما ما لصديق “مثقف” إنني أحاول إعادة قراءة العقاد لأنه… ولم أكمل عبارتي قبل أن يقاطعني باستياء: العقاد؟ وده ح تلاقي فيه إيه؟
والتساؤل يتضمن أكثر من مغالطة: مغالطة أنك تقرأ لتتبنى، ومغالطة أنك يجب أن تقرأ لصاحب أفكار مهمة، وليس مثلا لتستقرأ من خلفه طبيعة وعي اجتماعي وثقافي سائد وراهن أيضا. ومغالطة أهم في شأن حريتك أن تقرأ من تشاء، ومغالطة في الاستهتار بذكائك في استخلاص ما له القدرة على الحياة والمعاصرة.
ولم يكن قد جاء الوقت الذي يتركز المثقفون وزبائنهم، بل يتلخصون، في حلقات اجماعية “تضامنية”، يصبح فيها الزبون منتجا والمنتج زبونا بالتتابع، وتنتشر فيها موجات القراءة بالعدوى، فهذا موسم كونديرا حيث من الغريب أن تقرأ لكونراد، وهذا وقت ساراماجو حيث من المخجل أن تحمل رواية لبلزاك أو تكون كارها لقراءة اروايات من الأساس. وحيث يكون تبادل طأطأة الرؤوس، كعلامة اعجاب صامت وأكيد، دليلا على نوع من القهر التي تمارسه هذه المجموعات على أفرادها.
ليست مصادفة أن السنوات السابقة على “يوليو” هي التي كان يستدعيها أنصار “التنوير” منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، باستعارة مستحيلة، دون فهم أمرين: أولا شروط هذه اللحظة السابقة، وثانيا انهيارها السريع، رغم أنها بالمناسبة لم تكن، رغم ما حققته، عميقة ومبادرة بالقدر الكافي، كما أنه كان من المستحيل استعداتها لأن شروطها لم تكن أقل استثنائية عن الشروط التي صنعتها “يوليو” نفسها.
أتحدث عن الوسط الثقافي “المنتج” لا الرؤى الثقافية الاجتماعية بمعاتها الواسع لأن الأولى كانت تمثيلا للثانية في الواقع وإن حاولت بكل قوة أن تموه وتزيف هذا التمثيل أعني كونها أسيرة الوعي الشعبي الذي ترافق مع شكل من أشكال الحكم والسلطة ودعم كل منهما الآخر. وهي لم تكن أسيرة له فقط في منطق تفكيرها بل في طبيعة تكوينها من الأساس.
كما أن “الوعي الشعبي”، إذا صح هذا التعبير، كان يقبل بصورة ماكرة عملية التزييف المستمرة له، خاصة عن طريق الأشكال الثقافية الأكثر شهرة كالأفلام والأغاني، وهو ما حدث أيضا بعد ذلك من خلال الدين، أو المبادئ الأخلاقية المعلنة، بحيث يصعب ان تستقرئه مباشرة دون أن تقع في شرك خداعه.
يوليو ومشكلة الصدق:
يعني اندماج معنيي التمثيل السياسي والأخلاقي في كيان واحد حاكم الوقوع في أزمة التناقض بين الزمني واللازمني، أو على الأقل بين الزمانية المرنة والنسبية للفعل السياسي، والزمن التاريخي الممتد لفكرة “الشرعية”. فلا يمكن لسلطة أن تحتكر الفكرة الجوهرية لشرعية السلطة بكل ما تتضمنه من عبء أخلاقي ومبدأي، دون أن تجد نفسها بين أمرين:
1ـ الترهل لأنها تجد نفسها مطالبة طوال الوقت بتمثيل التاريخ (المتمثل أصلا في ثقافة المجتمع) بكل تناقضاته، وبالتالي فهي لاتخلط فقط بين التراث العلماني والديني بل بين أشتات متناقضة من “صور” تحققهما في مراحل تاريخية ينفي كل منها الآخر. لتصبح السلطة كرنفالا أو على هيئة مهرج لا يمكن أن يكون مقنعا لأنصار أي صورة، وهو ما يحدو بهذه لسلطة في النهاية إلى العنف، إنه (العنف) جزء بنيوي من تركيبة عجزها وشعورها بالافتضاح.
2ـ يؤخر هذا من عمل السلطة المطلوب منها أصلا وهو إدارة البلاد، لأنها تكون متفرغة بدعم شرعيتها مستنفدة طاقة كبيرة غير لازمة كان ينبغي أن توفرها لأمور تقنية وإدارية، مما يسهم مرة أخرى في تقليص شرعيتها. وكأن ما بنته على رمال الشرعية بالتكويش على الأفكار، تهدمه هشاشة العنصر المكون منه البناء ذاته.
3ـ تسمح السلطة من خلال ذلك بتحويل مجرى النشاط السياسي إلى نشاط ثقافي ذي طبيعة أخلاقية، وهو ما سمح بدخول الجماعات الدينية على الخط بشكل طبيعي، والحقيقة أنه حتى اليسار كان يتسرب إليه النقد الأخلاقي للشرعية كطريق سهل أمام عدو مكشوف مما قلص قدراته، رغم أصوله الوضعية والمنهجية، على البحث الموضوعيين. فشعوره بالتفوق الأخلاقي على السلطة المشكوك فيها بسهولة وفر أن يتحدث بثقة عن فساد النظام بين كل نفسين من سيجارة.
ما علاقة ذلك بمشكلة الصدق؟ وبالمثل ما مشكلة الصدق هذه؟
حين تتجسد المعاني في كتلة بشرية بعينها لا يعود نقاش الأفكار والمعاني خاضعا لصدقها الموضوعي، بل لدرجة تمثيل كل فرد من أفرادها للـ”فكرة”. الجماعات المعارضة بالذات تسلك سلوك “المستعمّر المهمَّش”، تبتدع لنفسها قانون للولاء الشخصي هو قانون “المطابقة” أو “الصدق”: ببساطة مصداقيتك كـ”أخ” أو “رفيق” هي في تمثيلك
الشخصي للفكرة على مستوى السلوك اليومي.
يفتح هذا باب جهنم على هذه المجموعات، حيث الرقابة والمقارنة الدائمة، والمعايرة، والتراتب بأقبح صوره وأشدها فظاظة وتفاهة، وبالخطأ المرعب (كما حدث مع السلطة من قبل) بالجمع بين الزمني المحدود بقدرات كل منا الشخصية داخل تاريخ خاص، وبين اللازمني، أو التاريخي الأكثر امتدادا والمفتوح على الاحتمالات الممثل في “الفكرة”.
لقد كان غريبا جدا، بالنسبة لي على الأقل، انهيار السبعينيين أمام تراجع الفكرة الماركسية، وكأن سقوط الفكرة في مكان،هذا إذا كانت الفكرة نفسها هي التي سقطت، يعني سقوط المؤمنين في مكان آخر. والأكثر إدهاشا هو أن معظم مراجعات الجيل لم تكن للفكرة نفسها إنما مجموعة من المذكرات ذات الطبيعة الشعرية الأخلاقية، لتبرئة الذات. كان هناك شعور غريب بالاهانة وكأن “الفكرة” نزلت عليهم ولهم. كأنهم “خدعوا”، رغم أن أحدا لم يخدعهم إطلاقا. لقد كانوا ماركسيين وجوديين بمعنى مضحك، أما نماذجهم الأساسية فلن تجدها في نصوص اجتماعاتهم أو مقالاتهم السياسية، ليس في ماركس ولا لينين ولا روزا لكسمبورج، بل في شخصيات دوستويفسكي المطاردة باللعنة.
بحيث يمكن أن تشير: هذا ميشكين، وهذه أجلايا.
يبدو أن “سبيعينيي” الشعراء والروائيين كانوا هامشا للهامش. هامشا لحلقات اليسار السبعيني، التي هي بدورها هامش السلطة، كانت تشعر بقهر حكات اليسار لها باعتبار الأخيرين “أصحاب كلمة وفعل” النموذج الأرفع للسلطة المتضمنة للشرعية، بينما كان الأخيرون يتهمونها نفس التهمة الموجهة للسلطة: احتكار الحقيقة. ومرة أخرى بدا هذا اتهاما سهلا لعدو سهل. بدورهم أسس السبعينيون الشعراء مجالا لسلطة شرعية أخرى استفادت من انهيارات اليسار، سلطة الشعر ذاته، سلطة اللازمني لكن بمعنى شديد المجانية والعماء، ومؤسس على قضية جاهزة وخاطئة من الأساس. هي أن السلطة تمثل الحقيقة فعلا أو انهما متلاومان. إذن لنكون “حقيقيين” أكثر فلا حقيقة، لأن كل حقيقة سلطة. هذا لم يمنع أبدا أن يكون الشاعر موظفا في دولة “الحقيقة” ويقبض راتبا حقيقيا جدا. وأحيانا كان الواحد يتساءل ماذا لو ناول الصراف الشاعر السبعيني راتبه على هيئة دواوين لأصدقائه كعقوبة قاصمة على ولعه بالـ”جمال”؟
الصدق بدا مضمونا وحيد البعد، إنه الصدق مع الذات. لإنه التطابق الهش الذي يضطر الواحد لخيانته لأنه مستحيل، إن لم أقل تافها وبلا مضمون. وهذا ما يجعل نموذجه الأساسي هو الانتحار. فالانتحار نوع من الابتزاز الأخلاقي للمجتمع، أو حتى للجماعة الصغيرة، باعتباره أعلى درجات التطابق.
ربما، مرة أخرى ربما، ورثت المجموعات الثقافية التي أعقبت السبعينيين نفس المشكلات، مع التقدم خطوة: لا جمال.. بل الحقيقة في الوجود المحض.. في الصياعة المجانية في الكتابة غير المبررة إطلاقا وغير الساعية إلى تبرير ذاتها، باختصار “الوجود” هو الحقيقة الواحدة للموجود. أو: الموجود حقيقي لأنه موجود. لم تكن المشكلة في ذلك، بل المشكلة في أن كتابته تصبح فضلة، فما حاجتك إلى كتابة وجودك (مادام مكتفيا بذاته) إلا التنطع والتظاهر والكذب. ولأن الكتابة بهذا المنطق فضلة فلم يعد مهما ان تناقش بجدية ولا أن تلتفت إلى بنائها ومنطقها، ولأنها فضلة فهي ليست حصيلة الجهد بل الفراغ، والصمت الزائد عن الحاجة. ولهذا تخرج في صورة “عيّ” في صورة نوع من العجز والتأتأة، في عودة إلىى البدائية والركاكة.
يكذب الواحد على الواقع ليصدق نفسه، ثم يكذب على نفسه ليتقبل الواقع، وفي هذه المرة يكون قد خرب تماما لأنه يكذب بلا قضية، فوجود القضية يجعله كاذبا كذبا مضاعفا، إنه مدفوع إلى إنكارها وبالتالي إلى تحمل كذبه كرائحة تلازمه طول الوقت، كرائحة أصلية..
هناك حلقة تبدو مفقودة في علاقة كل ذلك بـ”ثورة” يناير. وتحديدا بالنشطاء الذي حركوا جمرها لكنهم لم يتمكنوا من السيطرة على الحريق. هناك مسألة تحتاج إلى معلومات عن الأماكن، والأوساط الاجتماعية، وحتى الافتراضية، التي ربطت بين مجموعات سياسية وثقافية، وسربت بالتبادل رؤى وأفكارا وأساليب أداء متشابهة في جوهرها. يمكننا مثلا فهم كيف كانت الحلقات اليسارية الصغيرة على صلة دائما بمناخات ثقافية وفنية، بل يمكننا أن نقول أنه بدأ من السبيعينيات تحديدا كان الميل “الجمالي” يتسرب إلى خطاب هذه الجماعات أو بعض أفرادها المارقين. يمكننا أيضا فهم تحول بعض اليساريين إلى العمل في منظمات لحقوق الانسان كانت أيضا تستقطب بعض الشباب “المثقف”. لكن تبقى هذه ملاحظات غير كافية لتبرير تشابه اشكال الوعي والممارسة وتبادلها.
وتبقى قضية “الصدق” مركزا خفيا يشتغل حتى في غياب الفاعلين الأصليين، والأهم في غفلة عن طبيعة “النظام” الي أسهم في جعل هذه القضية هي المحك غير المرئي للفعل الثقافي والسياسي المعارض.
إن حالة استقطاب “الضمير” كانت إيذانا بفشل توسيع رقعة أي حوار اجتماعي أو حتى تأسيس هذا الفضاء الممكن للحوار، وحلت مكانه الإدانة الأخلاقية (العمالة مثلا) التي لا يفهم دواعيها الجمهور العريض في غياب تأسيس لغة مشتركة.
فداخل الجماعة الصعيرة (السلطة أو المعارضة.. المركز أو الهامش) كان التضامن على أساس مفروغ منه. المنتمون لجماعات الهامش خصوصا يبدون نظريا أكثر تماسكا، وتتحول اللغة المشتركة بينهم إلى رموز وإشارات.
والهدف من أي انجاز فردي موجه إلى الجماعة نفسها بالأساس. ومع الوقت لا تعود له أهمية إلا كدليل متجدد على الانتساب. يفقد بالتدريج النشاط الكتابي والكلامي خصوصا قدرته على السيطرة على الواقع ، ثم يغادره نهائيا باعتباره “فاسدا” بطريقة لا يمكن شفاؤه.
لظروف شخصية تماما، اعتبرت أروى صالح، الكاتبة وأحد رموز الحركة الطلابية في السبعينات، واحدة من أكثر النماذج الإنسانية المورطة والممثلة في الوقت نفسه لفكرة “الصدق”. ورغم أن اعترافي الذي سأذكره الآن مؤلم يطريقة، بالنسبة لي طبعا، إلا إنه حقيقي بالقدر نفسه:
قبل أشهر قليلة من انتحار أروى كتبت نصا مطولا، نصا رغم تعقيده الذهني لم يستطع أن يخفي ضربة الغضب والانتقام اليائس. قرأت النص لصديق روائي كان قد نصحني بعد انفصالي عن أروى بـ”البعد عن هذا المستنقع” ساءني التعبير جدا، وأدركت أنه لا يفهم مطلقا. كان هو نفسه على استعداد لأن يزم شفتيه كعادته ويربت على كتفي: “هذا قدرك” لو سقط حجر على رأسي وأنا إلى جواره. كان تروتسكيا يقرأ لرؤوف عبيد (صاحب مؤلفات ضخمة في علوم الأرواح) ويؤمن بأن مصائرنا الشخصية معلقة بالنجوم.
إذا كانت أروى “مستنقعا”، بحسب كلامه، فقد بدا لي هذا المستنقع ومايزال نورا زائدا عن الحاجة، نورا معذبا ومجرما. كان يراها مستنقعا لأنها كانت تشف بجرأة انتحارية الموجة التي يقف هو على شاطئها جبانا يلمسها بأصابع قدميه ثم يجري إلى الرمال. وبالنسبة لي لم يكن لدي مانع أن أعيش في هذا المستنقع إلى الأبد.
مع هذا فقد كان النص الذي كتبته، استكمالا لشذرات نشر جزء منها حينها في الكتابة الأخرى، يتوقع انتحارها، يتوقع المسرحية الكاملة للانتحار ليس باعتبار أنه تنبؤ بما سيحدث، بل أنه ما يجب أن يكون حتى لو لم يحدث. كنت أخاف من لقائها بعد سنوات، أخاف أن تعيش أكثر لأنها عندئذ ستصل إلى الشاطئ الطبيعي للـ”صادقين”: الكذب المطلق. وحينها سأفقد النور.
أهم ما بدا بعد انتحار أروى هو العدد الكبير من المقالات والرثائيات النبيلة التي انتفضت فجأة وكأنما بفارغ الصبر.
أصحاب هذه الأقلام، مثل صديقي التروتسكي الروحاني، تركوا أروى لمرضها لسنوات تضرب فيها أبواب الوحدة بلا أمل، وحدتها داخل شقتها كما داخل وعيها الملتبس. اشتكت أروى لي بعد صدور الكتاب من حالة من الحصار من رفاق الأمس، ومن الناشر نفسه، الذي قام، بعد انتحارها مباشرة، بطبع بوسترات لصورتها مع الطبعة الثانية من كتابها “المبتسرون”، وبرر بطبع هذه البوسترات سرقته لأموال تبرع بها البعض لأسرة مصرية فقدت عائلها اليساري.
ليست هذه القذارات ذات أهمية، لكن الأهم ومن بين كل ما كتب كان تعبير ملخص لعفن منطق “الصدق”، الذي يعني بطريقة ما أن تكون متطابقا مع نفسك.
“البتول” بهذا وصف أحدهم أروى في عنوان مقاله. لم أفهم هذا التعبير مع إنني في الوقت نفسه فهمته بطريقة ما. أعني فهمت انحطاط الذهنية التي تقف وراءه. فاليساريون الأحرار كان لابد (علنيا) ألا يبدو احترامهم إلا للتضحية الجذرية، للحرمان والتوحد والعصامية. تماما مثل أفلام ضابط الشرطة السرية في الأفلام الأميركية، أو السوبرمان في نسخته المبتذلة، “العدالة المكتفية بذاتها”. كلمة “البتول”، بغض النظر عن عدم انطباقها مطلقا على أروى وكونه تعبير لا يشرف أحدا أصلا، كانت تحتقر إنسانيتها، تحتقر أن جزءا أساسيا من كفاحها مهما بدا مضطربا كان موجها إلى السعادة وليس إلى الحرمان.
لكن من جهة أخرى بدا هذا وكأنه الرد الطبيعي على الصورة التي قدمتها أروى عن نفسها، أو بمعنى أدق كان النتاج الطبيعي والوجه الآخر أو الجزاء العادل لمن يتلاعب بفلسفة التعاسة.
“فلسفة التعاسة ستستقبل دائما بحفاوة من أصحاب الدم البارد، الذين من مصلحتهم ترويج هذه الطبعة المأساوية لصالح “التواطؤات الكبرى”. “لا تتورط” ها ما يقوله لك أصحاب الدماء الباردة، بل ما تقوله فلسفة التعاسة ذاتها وهي تقدم لك نبلاء مشعثي الرؤوس أطاح بأرواحهم “الوفاق التام مع الوجود”، فقط أذرف دمعة هنا ودمعة هناك، لتمر برحلة التطهير القذرة وأنت في بيتك، ودون أن تطالب نفسط بأي شيء” هذا ما كتبته إذن قبل أن يخبرني صديق آخر، كان يعلق أبياتا لشعراء كبار على حائط غرفته العاري تماما مثل بوسترات أبطال المصارعة في غرف المراهقين، أقول: قبل أن يخبرني أن جناحي الملاك المقصوصين سقطا من الدور العاشر في شارع شهاب، لكنني أنا الذي كنت أرتطم بالأرض، وأسأل عن النور.
لكن ما الذي أضفى على هذه الصورة كل ذلك السحر؟. لا أتحدث عن أروى، بل الطبعة التي روّج لها.
ما الجمال في فكرة العصامية، وما حقيقتها أصلا؟ وكيف يمكن لماركسي، يعتقد أن التاريخ صانع البشر بقدر ما هم صانعوه، بل الأهم أنه يجعل مركز الفرد ضعيفا إلى درجة كبيرة داخل الحراك الجماعي والطبقي له، كيف يمكن لهذا الماركسي أن يصدق خرافة العصامية إن لم تكن قد تسربت له من الأدب. أي أنه قرأ الماركسية كحلم يقظة، وتحت شعار “المسيرة الكبرى” كان يحلم بمظاهرة يعتلي ظهرها، حيث يصبح قريبا من السماء، ويوشك أن يضرب من فوق موجة البشر بجناحية.
“المسيرة الكبرى” كان التعبير أو “الاستعارة” التي استخلصتها أروى من التجربة الماركسية، وهو بدوره تعبير استقته من رواية “خفة الكائن” لميلان كونديرا. لكن تحت ملائكة “المسيرة الكبرى” أو حلمها على الأقل كانت تركتب بشاعات لم تتمكن أروى من ذكرها مباشرة في كتابها المبتسرون.
كانت هي بدورها لا تحمل عاطفة قوية تجاه هذا الكتاب رغم استيائها الظاهر من نقاده. كان ثمة كتاب آخر تحكي عنه، أوراق كتبتها في أسبانيا في لحظة انتهت بانتكاسة مرضية، كانت تحكي عنها بسخونة وحميمية وألم باعتبارها الأصل الضائع للـ”المبتسرون”، وكانت هذه النورانية اللحظية التي تتحدث عنها تذكرني توا بالأمير ميشكين.
صور وراء صور.
على يسار الداخل إلى منزل أروى وهو منزل العائلة (أو قسم منه) كانت صورة لينين بلحيته المدببة ملصقة على مكتبة ذات ضلفتين من الزجاج. لكنها كانت تتحدث عن دوستويفسكي باعتباره الأب. وكانت تتساءل بحساسية حقيقية ربما تصل إلى حد الإدانة: كيف استطاع أن يحتمل كل هذا القبح؟ كيف استطاع أن يكتبه؟.
كانت تتساءل أيضا لماذا لم تستطع أن تكتب رواية رغم رصيدها الوافر من الحكايات. ولم أفهم إلا بعد ذلك أن هذا كان طبيعيا جدا، فقد كانت هي نفسها شخصية روائية، أرادت ذلك دون وعي، وأصبحت تعيش بين دفتي كتاب صنعته بنفسها.
لكن الصورة اللصيقة بحلم الحياة كانت في حجرة المعيشة المطلة على شرفة واسعة، تلك الشرفة التي تطلعت إليها أول مرة في ليلة شتاء باردة، بينما كانت أروى تترقبني مستندة إلى الإفريز، ومن ورائها نور الغرفة خفبفا وحالما.
الصورة كانت لببهاء النقاش، ملامح السبعينات بادية فيها، وجه مستطيل ذو قسمات بارزة ينتهي بتافحة آدم، الشعر وياقة القميص يدلانك على الزمن. بهاء كان حلما آخر، الحلم المستحيل لأن صاحبه لم يعد موجودا، تماما مثل الكتاب الضائع. لدرجة أنك تشك في كونه كان حلما في يوم من الأيام ولم يكن مثلا ندما بأثر رجعي؛ ندم هو نفسه يمكن الشك فيه. كانت تذكر بأسى أنها لم تشعر تجاهه إلا بالصداقة.
في كل مرة لا تشك أروى أبدا في طبيعة الصور التي تملي علييها رغباتها، وأحكام قيمتها. كانت تحمل مسرحها وتتجه به إلى الخارج بعنف المؤمن، وكان على الواقع أن يستجيب، أو أن يصبح مدانا. هكذا كان يمكن أنتطلع على رسائلها المليئة بتشريح أشخاص بمبضع نابه شديد الذكاء والقسوة. تحت إحدى هذه الرسائل التي أعادها (المرسل إليه) إلى أروى كانت الشخص المعني قد وضع خطوطا حمراء تحت اتهامات موجعة، كان عليّ أنت أستشعر حجم الإحساس بالمرارة والغبن التي تركتها في نفسه.
كانت أروى تشعر بهذه القسوة، بأن ثمة شيئا غير طبيعي، كانت ترتد إلى ذاتها في لحظات بالغة العذوبة، لكن من قلب عذوبة تأنيب الذات كانت تنبت مخالب جديدة للذات نفسها.
كانت ثورة تدور في يأس وسط المرايا، ومثل كل الحالمين أرادت أن تلغي الوسيط المعذب، تجطم الديكور وتعيد بناءه دون أن تلتفت إلى مصدره الجوهري، إلى جنون إلغاء الوسيط وجنون الاعتراف به كصورة للذات، هكذا ألقت بنفسها في إحدى هذه المرايا لتنهي عذاب الوساطة.
في كتاب أروى “المبتسرون” كانت هناك صورة أخرى، صورة ليست بالوضوح نفسه، صوت الشاب الأسمر جمال عبدالناصر. السلطة التي نما في ظلها “الجيل” ورسمت أمامه المعادل الشخصي للزعامة الوطنية، الصورة المسؤولة بكل ملحقاتها عن حالات التشوه والانكسار.
أما الشعب فكتبت عنه عبارة في مقدمتها، ذلك الشعب الذي أسرع إلى الدخول في “حظيرة الإيمان” بعد هزيمة الناصرية. في هامش إحدى الصفحات أشارت أروى إلى أنها تشعر الآن بعديمة وطنية، وبالطبع كان هذا التعبير كافيا لهجوم الأغبياء من رفاق الجيل، الذين لا يقلون عدمية بالمناسبة و لايملكون الجرأة على قول ذلك.
بالنسبة لي بدا هذا التعبير منطقيا تماما فلا الشعب ولا المجتمع كان قضية الثوريين إلا في محررات رسمية وتنظيرات كان الهدف الحقيقي الذي تثمر عنه، دون مباشرة، هو إحراز مكانة شبيهة بمكانة الزعيم الأسمر داخل أحزاب لا تضم أكثر من عدد تلاميذ فصل في مدرسة. كانت مفرزا لإعادة التراتبية في أقبح صورها بين المنظرين والاتباع بين درجات النباهة والاخلاص للفكرة. وهو ما كان يمكن أن تجده بحذافيره في أجواء التجمعات الأدبية رغم عدم وجود تسميات صريحة. علام إذن يمكن أن يلام الاخوان مثلا؟
الوعي المعذب بالتطابق هو وعي بداهات. لا يعني ذلك أن صاحبه يتجاهل المعرفة، لكنه يحطم قانونها، إن المعرفة لديه لا تنج سوى صور يقع هو في مركزها، ووعيه الدفاعي يقوده إلى استهلاك المزيد من المعارف، بالمعنى الرديء لكلمة “الاستهلاك”. إنه يفتح الكتب ليقرأ ذاته مجددا، ليتحسس وجهه أمام المرآة ويتأكد من وجوده في مكان الأمس.
علينا أن نتصور هذا “المناضل” كما لو كان كل مرة يجابه بداهة مغلقة على نفسها: دوافع أصلية عمياء، ومن ثم مطلقة اليد في مصيره، وظرف عام يهيئ له قفزة في الفراغ بوعود وتأكيدات شبه دينية. وفي انتظار هذه الوعود، أو في طريقها، يمنحه “الكيتش” صورة يعانقها بدلا من الوسادة الخالية، ويظل مع هذا معتقدا أنه يبحث عن الحقيقة، وأنه يتقدم إلى الأمام بإرادة كاملة، وهو يبيت كل ليلة في حضن “المسيرة الكبرى” دون أن يتساءل عن علاقتها بالحقيقة التي ينادي بها. من الطبيعي ألا يخرج المناضل من تجربته إلا بـ”المسيرة الكبرى”، فهي الشيء الوحيد الي آنس وحشته. من أين يستمد المناضل نبله إذن، وهو الذي يعمل كآلة منومة، مأساتها بالذات تصورها عن حريتها؟ إنه يستمده من الفشل.
تدرك أروى بعمق مدهش المخاطرة الإنسانية في التماهي مع “الكيتش” حيث منطقة الجنون والعدم.
بين “الاستحالة” و”الفشل” يقع طريق المناضل، وها ما يعطي للنضال صبغته الشعرية الشائعة. طريق المناضل تنتهي بالـ”جمال” بسبب من فشلها تحديدا. فالجمال هنا هو شهادة الإعفاء من الخدمة، أي الطرد النهائي من كل إمكانية للتغيير.
لن نتساءل الآن ما إذا كان هذا هو المناضل حقا، إذ إن فرحة الاكتشاف التي تثدمها أروى (اكتشاف الكيتش) كنوع من استعادة المسافة الضرورية عنه، من التنفس بعمق في الفراغ الي يتركه، لم تتح للاكتشاف أن يصل إلى حدوده النهائية: لماذا كان أصلا؟ وما الذي يضمن ألا نسقط في غيره مجددا؟
تعتصم أروى بفكرة الحالم كديلي وحيد على النبل وسط عالم من العاجزين عن الحلم، من المخصيين روحيا (أو هكذا تتصورهم) من المتواطئين من الواقع. لكن هل صحيح أن “الحالم” ظاهرة تختص بجماعات بعينها؟ أم أن بإمكاننا وسم أي فرد بأنه “حالم”؟ فقط نحن لم نسأل آلاف العابرين عن أفكارهم التي سعوا إلى التطابق معها، وعن الاستعارات التي تكتموا عليها واحتفظوا لأنفسهم بعناقها. نحن لم نسأل آلاف الساقطين يوميا، والذين لا يملكون من الوقاحة ما يسمح لهم بأن يعدوا أنفسهم مناضلين أو شعراء، مع ملاحظة أن هاتين الصفتين ـ بوضعهما السابق ـ لا تشرفان أحدا.
عصمة الكيان الثوري أو حتى “الجمالي” هو نوع من سحب السلطة من الجماعة الحاكمة إلى الجماعة الهامشية، وهي عصمة، في غياب قدرة الفعل، تتذرع بالبلاغة والرموز.
مثلا تصبح الصعلكة قيمة في مواجهة صورة السلطوي أو البيروقراطي أو المنسجم مع الجماعة الكبرى، صورة يسحب بها الصعلوك المصداقية في لعبة “الشرعية لمن؟”، ويذكّر بها جماعته الصغيرة بالنموذج “الانتحاري” المتطابق مع ذاته. لذلك سوف تجد في صفوف جماعات الهامش (حتى الدينية منها) هذا النموج دون أن تعرف ما هو إنجازه فعلا؛ أشخاص يسقطون على هذه الحلقات الصغيرة يمارسون عليها نفوذا مبهما بمطلق حضورهم:
المبادرون إلى صعود الأكتاف في المظاهرة، وضرب الطاولة بيد قوية، الغاضبون، وفق صورة مسبقة للنزاهة، تنتهي بالاضراب عن الطعام. الكل يعرف اللعبة، يعرف أن هذا لا معنى له على الاطلاق. فالرموز التي تخلق وسط جماعات من هذا النوع لا حياة لها خارجها، وليس باستطاعتها إقامة أي جسر مع الواقع والناس، فهي ليست لغة، أو لنقل لغة غير مكتملة ولا ناضجة، إنها شعارات انتساب، وأحيانا تشبه “السيم” الذي يستخدمه بعض أصحاب الحرف الخاصة. لا علاقة لهذا بالمعرفة ولا بالثورة، ولا يمكن أن ينتج “قيمة” إنستنية قابلة للتمثيل في الحياة، وليس مطلوبا منه ذلك في الحقيقة. إنه يصبح نوعا من “الأناقة”. أما فيما يتعلق بالخارج فهو لا يعني إلا السلطة: ممارسة العنف على الغير من خلال سحب الشرعية بانتحارية زائفة، ولغة عاجزة عن الحوار، لغة صنعت للحماية، حتى بما فيها من “هرتلة” محسوبة ومصطنعة إلى درجة تثير الاشمئزاز.
من الطبيعي مثلا، مادامت حقيقة الأمر هي العنف،أن يكون الحضور الجسدي هو الفيصل في النهاية.
يشعر اليساريون، منذ صعود الجماعات الدينية، بالدونية تجاهها لهذا السبب بالذات، رغم كل الحنق الذي يبدونه تجاهها، وحتى التهكم والسخرية. لأن العبرة في العدد والتماسك الداخلي (الذي فشل فيه اليسار) لا في الفكرة. أنا، أو الفرح الطفولي بالخراب العام. “الخراب” قيمة، طالما أننا لسنا هناك طبعا.
إن أسوأ ما في “الكيتش” أمران: الأول هو التكرار، تتغير الاستعارة لكن جوهر العلاقة بها يظل واحدا، ابدل الدين بالوطنية، أو “خيبر خيبر يا يهود” بأغاني الشيخ إمام.
فرح على هامش “الكيتش”:
يوم عقد قراني بأروى كان احتفال بسيط في منزلها دعي إليه عدد من رفاق الأمس والأصدقاء. شعرت بتوتر شديد بين هذه الوجوه التي تتجاهلني تقريبا. وربما لم يكن الأمر كذلك، فاللغة المشتركة تصنع السحن المشتركة أيضا التي تتعارف تلقائيا. لم يكن هناك ما يشير إلى أننا في “فرح” وإنما في جلسة هامشية بعد انتهاء اجتماع الحزب. بدا وكأن هناك خجل من أن يكون “الفرح” عاديا: زغاريد، أغاني، ضحكات..إلخ
انسحبت إلى غرفة المعيشة مستنجدا بوجود ببعض الأصدقاء سمعت إحداهن من الصالة تقول : ده العريس بيغني!
جاءت الجماعة والتفت في دائرة على الأرض في حجرة الجلوس. بعد أن انتهت أغنيتي، قدمت أسرة من “رفيقين” طفلتهما الصغيرة لتغني. فغنت أغنية عن فلسطين.
شعرت وقتها أنني أريد أن أتقيأ. وتذكرت فورا “الأخوة” الذين كانوا يغنون في الأفراح “الاسلامية”: لبيك إسلام البطولة كلنا نحمي الحمى/ لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما. فتردد الجماعة: سلما.. سلما.
امتدت يد الرفاق لتمسخ حتى الطفولة من أجل تكرار شعارها الكاذب والميت. فالكيتش لا يرحم
العنف الطبيعي:
المشكلة الأخرى للكيتش أو للعلاقة العصابية به، هو أنه نفي دائم لكل معرفة أو خبرة بشرية، فالكيتش أو الصورة (سمها ما شئت) التي نكونها عن أحلامنا هي المكان الجامع بين الخبرة التي تسربت إلينا من الحياة وما نعتبره قيمة، بين ما نعرفه “موضوعيا” وما نعتبره يخصنا ويمثل معنى. وحين يتم استهلاك الكيتش لا تسقط بالتالي قيمة الحياة فقط بل تسقط معها كل خبراتها الموضوعية. هكذا يمكنك أن تكتشف في “الحالمين” أن اعتمادهم المطلق على صفاء علاقتهم بالكيتش جعلهم عاجزين عن التواصل مع أي خبرة إنسانية لا يتضمنها. تفهم بالتالي لماذا ينزعج “الاسلامي” إلى حد الفزع الاسلامي من الموسيقى، لماا ينظر إلى رواية تحملها وكأنها شيطان سيبرز قرنيه في أي لحظة.
ليس ها فقط، فهو في حربه ضد أعداء “الكيتش” يصبح متفرغا تماما لما تفعله السلطة، وهي تنقية التشديد الدائم على طهارة الصورة، وفؤ الوقت نفسه محاولة إظهار أنها تعني كل شيء وأي شيء. فالاسلام تحدث عن البيئة والاسلام عالج مشكلة الاحتباس الحراري والاسلام كفيل بعلاج النقرس وحمى النفاس والاسلام صيغة للتعاون الدولي (بعد أن تكون قد قضيت على كل الشركاء). يصبح الكيتش كل شيء ولاشيء. ثم يتحول في النهاية إلى الخرس التام، لأنه كاف بذاته في التعبير عن ذاته. وعندها يصبح العنف طبيعيا جدا. انه ممارسة الكيتش للامتداد للتغلب على كل ما ينافيه أو يقلقه. وكلما اندفع الى الامام ازداد هشاشة وترهلا وعنفا.
لكن يبقى السؤال هل تسرب هذا الوعي أو جزء منه على الأقل إلى “الثوار”؟ وبطريقة أخرى كيف كانوا يتصورون “الثورة”؟
“أحسست ببساطة أنني مكلّف بشيء، لأول مرة في تلك الكاتدرائية الخالية في مكان ما من فرنسا، التي أمرتني فيها أن أحمل هذا العبء. كنت رجلا بلا شرف، وفجأة صار لي شرف، ذلك الشرف الذي ما تصورت أن يكون لي: شرف الله، شرف لا يُدرَك، شرف هش، كأنه مُلْك طفل مطارد..”… مسرحية “بيكيت“- جان أنوي.
لا أريد أن أتحدث عن “الحالمين”، عن الذين يضربون رؤوسهم في الجدار، وحين يفشلون في اجتيازه، يصبون اللعنات على حياة لا تحتمل نبلهم، دون أن ينتبهوا أن هذا الجدار نفسه قد يكون من صنعهم هم. وأن حلمهم نفسه مصنوع بقدر ما هو أناني. بل أريد أن أتحدث عن أهميتهم لمجتمع “المهرجين”.
“الحالمون” سيظلون “ظاهريا” قلة واستثناء، لكن أهميتهم في واقع الأمر أنهم يمثلون التكأة الخفية التي يستند عليها نوع رخيص من الواقعية.
يقدم الحالمون المبدأ الزائف المتمثل في الصدق الانتحاري الأعرج، الذي يتبناه شكليا “الواقعيون” باعتباره حقيقة لكنها مستحيلة، وبالتالي تسهل خيانتها كل يوم باسم “الواقعية”، أو بدعوى الضرورة. الضرورة مثلا منعت كل فصائل الثورة ومدعيها (بغض النظر عن الانتماءات) من الاعتراف بالأخطاء في تكوينها وفكرها ذاته، وفي درجة تأهيلها الحقيقية لتلولي أي مسؤولية. لقد دخلت أرض المعركة بدعوى الشرعية الأخلاقية بالأساس في مواجهة نظام فاسد، دون أن تسأل نفسها عن معنى هذا الفساد، ولا ما إذا كانت قادرة على تمثيل الجانب المقابل له، ولا عن مدى اسهامها هي نفسها في تكريس الفساد بتحويله إلى “شيطان” أو “شر غير مبرر” يقابله “طهر مجاني”.
وحين تكتشف أن الواقع أكبر وأعقد بكثير من التضحية المجانية، لا تفعل أكثر من أن تتاجر بالتضحية علنا، وتساوم بها على حجز مكان من الواقع، هو مكان “التميز الأخلاقي”، وبه تستمر في الحياة بشكل طبيعي بين الوساخات وعليها، فقط مع إظهار التأفف الضروري. وهي في الحقيقة الطريقة التي عاشت بها النخب السياسية والثقافية منذ عقود ومن
“الواقعية” ستحاول دائما إلغاء الممكنات (أعني ما كان ممكنا) بالتركيز والمغالاة في استثنائيتها (مثل الـ 18 يوما الأولى من الثورة) لصالح التعامل مع واقع الحال. وهو دأب كل الجماعات السياسية الآن، مع العلم أن ما هو واقع الآن انما أصبح كذلك بسبب التفريط المتواصل في “ما كان ممكنا”.
ستغالي دائما في القيمة الانتحارية، لأنها عاجزة تماما عن تقديم البديل: قيمة الحياة.
من المضحك مثلا أن يخرج المثقفون في مظاهرات رافعين صورا لسيد درويش أو أم كلثوم أو طه حسين، وكأنهم لا يجدون مبررا آنيا للحياة إلا في صور الموتى. من المضحك أن الثقافة بالنسبة إليهم هي رموز أيضا؛
متاجرة بالرموز والصور.
الحقيقة إن هذه الصور لا تقدم شيئا للناس ولا علاقة لها بالأسئلة الحارقة المطروحة للحاضر، والحقيقة إن هدف هذه الصور هو “تحصين” المجال المسمى بالـ”ثقافي” أو بالأحرى ساكنيه، وذلك من خلال سياج رمزي يشعرهم ذأنهم “جماعة” وأن لهذه الجماعة تاريخا.
إن هذه الجماعة لا تستطيع أن ترفع صور أفرادها أو أغلفة كتبهم، وتعرف أن حضورها الشخصي لايمثل شيئا خارجها، وأن إنجازها الرمزي لا يقدم في معظمه رؤية حقيقية للناس، ولم يكن هذا شاغلها إلا فيما ندر، أعني عرض أسئلتها على الحياة الفعلية، وإنتاج رموز جديدة تسهم في الكشف عن هذه الحياة أو تطويرها، بل كان شاغلها إعادة انتاج ذاتها، وحجز المكان الفارغ الذي تخلى عنه المجتمع والمسمى بالـ”ثقافة” لتملأه هي بالرموز المستعارة. الأهم أنها لم تفكر في تجاوز “الرمز” إلى اللغة بمعناها الواسع، كمعترك تختبر فيه المعرفة نفسها، وإمكانيتها على التواجد خارج الجماعة المغلقة.
لم يكن بلا دلالة إذن أن يقع هذا الكرنفال الرمزي قريبا جدا من المقاهي التي جلس عليها المثقفون طوال العقود السابقة، أي أنه كان “مظاهرة في البيت”.
ولا يبدو الإخواني أو السلفي أفضل حالا، بل ربما أكثر مأساوية، لأنه مطالب كل يوم بتبرير خيانته لرموز تخص عقيدته مباشرة، إنه مطالب بأن يبحث الآن عن دليل أن النبي كان “يسب” لأنه (الاخواني او السلفي) عاجز تماما عن الحوار. وأن النبي كان يخادع، لأنه (الاخواني أو السلفي) غير قادر على المواجهة الصريحة. إنه مطالب كل يوم (بعد أن تحول من الهامش إلى السلطة) بامتهان رموزه بالذات، ليجد نفسه مهلهلا بصورة أسوأ بكثير من النظام الي رفضه، لأنه يصطدم باستعارته المستحيلة، فيسقط في أشنع أشكال الواقعية.
ومع هذا أعترف أن تعبير “الواقعية” غير جيد بالمرة، و لايصف بوضوح جحيم مجتمع “المهرجين”
مجتمع المهرجين هو مجتمع “إياك أن تصدق”، وهو ما يعني بتعبير آخر إياك أن تؤمن إلى النهاية. لأنه مجتمع قاس جدا، مجتمع قوة، يستخدم الأفكار كأقنعة أو أدوات مساومة. وبالتالي لا تعتبر الأفكار لديه ذات قدرة تمثيلية مفتوحة على الواقع والناس. لكنها ذات قدرة استبدالية مرهونة بفكرة “النجاح” بكل ما تعنيه هذه الكلمة من قسوة ومجانية: نجاح من؟ ونجاح ماذا؟ وما هو هذا النجاح أصلا؟
يختلف سؤال النجاح عن سؤال السعادة مثلا. الغريب أن كلمة “النجاح”، كتعبير يدل على قيمة مثمنة في ذاتها، كانت، تراثيا، تحمل هذا المعنى الضمني: “السعادة”، وليس التفوق أو الانتصار، وأن الظلال الجديدة للكلمة، وهي ظلال برجوازية اختلطت باليأس، تأصلت حتى داخل الجماعات الدينية والأصولية نفسها. لأن السؤال البرجوازي عن النجاح سؤال في جوهره عدمي، فما بالك إذا كان يائسا؟!
أحيانا يسأل الواحد نفسه: ماذا لو نجحت فعلا على طريقة من يتقدم إلى الأمام، ماذا لو نظرت فجأة فوجدت الآخرين كلهم ورائي؟ أحدهم يقول “أريد أن أحقق ذاتي، أن أجد نفسي” لكن ماذا لو وجدتها فعلا؟ أي صحراء تنظرك؟!
في حوار مليء بالشجن قالت أروى: أنت ستتجاوزني
لم أتعاطف أبدا مع العبارة. وجدتها حكما جاهلا وغشيما. وماذا إذا كنت لا أريد أن أتجاوز أحدا؟ ماذا إذا كنت سعيدا بالبقاء هنا، بالائتناس, بالوجود “معا “، ذلك الوجود الوحيد الذي يحمل مبرره في ذاته؟
ثم ما هي هذه القيمة العجيبة المسماة بالتجاوز؟ إنها في الحقيقة تعبير أدبي أعاد إنتاج تراتبية “النجاح” البرجوازي داخل الضمير الجمالي. هكذا يحرم الواحد نفسه من المساحة التي صنعت أصلا لصداقة البشر، لتتحول إلى مضمار ترابي للسباق مليء بالركل والرفس ودهس الساقطين.
في الحقيقة كانت العبارة مجرد اسقاط، يكشف عن القيمة التي كانت تحكم خيال أروى، والآن ظهرت لها على هيئة كابوس.
من منا لم يحس بأن الطلاب المتفوقين في مدرسته كان فيهم شيء مقيت لا يستطيع الاعتراف به حتى لنفسه، شيء تافه لا يحتمل. كانوا حاملي أثقال بوجوه باردة، يستخدمون معارف بشر حقيقيين جدا ليقفوا عليها بأقدامهم باحثين عن اسمائهم في لوحة الشرف.
المدهش في “النجاح”، أو اعتباره قيمة، أنه قد لا يحتاج إلى أي موضوع، فهو ظاهرة عنف بالاساس. قد يتحقق النجاح، بلعبة نفسية، مثلا باتسامة الثقة المقيتة لدى الإخواني (وليس اليساري أفضل حالا بالمناسبة). النجاح هنا لا يشترط موضوعا على الاطلاق، إنه يعود إلى خصيصته الأساسية كممارسة للاستعلاء، كتعويض عن صداقة البشر بابتلاع جثثهم. والبقاء مع ذلك في حالة من الجوع أشبه باللعنة. لعبة الابتسامات اللزجة تختفي تحت طاولتها مباشرة السكاكين.
يسعى الإخوان إلى النجاح، مدعومين، وهذا منطقي جدا، بالممثل الرئيس للفكرة المتمثل في القيادة الأميركية (أوباما نفسه رمز للنجاح في صورة مسخرة)، وفي طريق “النجاح” يتحول الإخواني إلى عدمي: لا جنة ولا نار: لا آخرة ولا ضمير، ولا إله: أي لا ظل لوجوده كمؤمن على الاطلاق.. إنه يخسر الجانب الآخر الذي كان يرجئه ويتعلل به طول الوقت. أليس منطقيا أن يُظهِر إذن كل هذا العنف. إنه عنف مواز لعنف آخر يضمره تجاه نفسه، حين يكتشف مسخرة حلمه بالتطابق، ويبقى في العراء.
“الثوار” أيضا وضعوا أنفسهم بين فكرتين بوهم التضاد: التضجية، أو النجاح. وسيجدون أنفسهم إما مجبرين على المضي في الطريق الانتحاري، أو في الدخول إلى لعبة السياسة بمنطق النجاح نفسه. وهو ما يعني أنهم كما فشلوا في تحويل التضحية إلى فعل لانتاج الحياة، فشلوا أيضا في ابتكار معنى للسياسة باعتبارها “الحياة معا”، ماداموا غير قادرين على فهم الاشتراطات الصعبة لهذه الـ”معا”، وربما لم يحسبوا لها حسابا أصلا.
من الطبيعي أيضا أن يتراجع اهتمام الشعب (والذي لم يكن حقيقيا في أي وقت) بهذا الفصيل أو ذاك، فالمعركة لا تعنيه. ويمكنه، بينه وبين نفسه، تبرير عدم الاكتراث باعتبار أن ما يدور هو صراع بين قيم مجردة وأفكار كبيرة (وزائفة) يتخفى وراءها كل فصيل.
هنا يخرج الشعب “المهرج” ورقته الرابحة، فيطلع عليك عبر شاشات الفضائيات مرتديا قناع “المواطن العادي” و”الانسان البسيط”. وهي الكذبة الأكثر خسة ودناءة في تاريخه، إن لم تكن هي المسؤولة أصلا عن خلق الصراع الوهمي بين “الحالمين” ومن أطاح بهم “الوفاق التام مع الوجود”.
في أول خطاب له بعد إعلان الفوز بالرئاسة وجه محمد مرسي حديثه إلى “الأهل والعشيرة”. بشكل ما بدا الأمر كما لو كانت الكلمتان تشيران إلى “جماعته”، غير أنه من الوارد، وهو ما أعتقده، أنه كان يخاطب “الشعب” فعلا، لكن بـألفاظ يعادل استخدامها داخل “الجماعة”، التي تربى فيها، النزوع الشعبوي لرؤساء يمكن أن يعدوا “علمانيين”، وهذا يسنجم أكثر برأيي مع تركيزه في الأخير على “أصحاب التكاتك”.
فشل محمد مرسي وجماعته، وعنفهما أيضا، لا يعود إلى ضيق فكرة “الجماعة” فقط، ولكن يعود أيضا إلى قاسم مشترك بينهما وبين السلطة الاحتكارية السابقة، بل بينهما وبين كل المتنازعين على السلطة الآن بنسب متفاوتة، وحتى المجتمع النائي بنفسه عن الموضوع، هذا القاسم المشترك هو التصور العام عن شيء يتم التفويض باسمه للمارسة الاحتكار وهو “الشعب”.
في عدد قديم من مجلة “المصور” (وربما “آخر ساعة “) أعد موضوع عن الحياة اليومية لعبد الناصر في منزله بمنشية البكري، من خلال لقطات مصورة تبرز إفطاره البسيط الذي يتضمن قطعة جبن وخبز وشاي وطبق من الفول. لا حاجة إلى الإشارة إلى أن صور عبد الناصر في الصحف وهو يحيي مواطنين اقتربوا من سيارته المكشوفة، أو وهو يُميل خده لتقبله فلاحة بسيطة قبلة أمومية، كانت تتكرر باستمرار.
هذه الصور ستعود إلى الظهور مرة أخرى في حياة الرئيسين التاليين، وهي في النهاية لاتختلف عن الصور النمطية لزعماء أنظمة مشابهة، وسوف يعبر عنها محمد مرسي بطريقة لم تتخلص تماما من ثقافة جماعته والمنسجمة مع مصادر أيديولوجيتها التراثية المصطنعة ومنها طبعا اللغة.
طبيعي أن يشعر نظام احتكاري للسلطة وغير تمثيلي للمجتمع بحاجته الدائمة إلى الشرعية. ولكن، وبسبب حرصه على احتكاريته للسلطة، ونزاعه مع المجموعات التي أقصاها عن الحكم، فإنه لا يتخذ الخطوات الطبيعية لتحقيق شرعيته، مثلا: بإعلان انحيازه الواضح إلى جملة من المبادئ، أو ببرنامج واضح المعالم لابد سيستقطب شريحة أو طبقة من المجتمع.
لا يريد النظام مغامرة كهذه تتدخله في الصف مع الجماعات الأخرى المتنازعة على السلطة، ومن ثم يلجأ إلى لعبة “الشعبوية”، تلك اللعبة التي تجعله ممثلا لشيء غير محدد المعالم ولا يمكن قياس إرادته اسمه : “الشعب”، في غياب أي طبيعة مؤسسية تجعل له شكلا.
ولأن كلمة الشعب تظل مجردة ومائعة إلى حد أنها لا تحدد شيئا، على الأقل شيء يمكن تمثيله سياسيا، فإن الاستعانة بفكرة النموذج الشارح هامة جدا هنا، نموذج تمثيلي للشعب هو “المواطن البسيط”.
لا تُعد فكرة “المواطن البسيط” بدورها دليلا حقيقيا علميا على تمثيل أي نظام للشعب بطبيعة الحال، وليس هذا مطلوبا منها أيضا؛ فمن قال أن قُبلة على خد الرئيس تعني أن “الشعب” يبايعه؟
فكرة “المواطن البسيط” فكرة جمالية بالأساس، أي أنها شاهد شعري إذا صح التعبير. والحقيقة أن تكريس هذه الفكرة كان اللاعبان الأساسيان فيه هما الفن والأدب (بالمعنى الواسع) حتى قبل أن تظللنا سنوات الزعيم الأوحد.
بدوره لا يشير تعبير “المواطن البسيط” إلى نموج تمثيلي حقيقي أو ثابت، فهو يمكن أن يكون الموظف الصغير، أو العامل، يمكن أن يكون اللص أو العسكري، الطبيب الذي يخوض صراعا في مستشفى تبيع الأعضاء، أو العاطل في حي عشوائي. لكن هناك خيطا جامعا بين كل هؤلاء الذين يتقلبون على أداء دور “المواطن البسيط” بحسب تغير التاريخ، وهو عنصرا الإدانة والتطهير. وهذا ما يؤكد الطبيعة الجمالية لللنموج.
يدين المواطن البسيط ما يراه انحرافا عن مبادئ أخلاقية مجردة ومستقرة في العرف العام دون أي تمثيل حقيقي لها. وبشكل بدائي تتشخصن المبادئ/ أو خيانتها، في صورة نخبة أو جماعة أو فرد بعينه، يصبح هو/ أو هي المسؤول الكامل عن تمثيلها أو خيانتها.
ويعود المواطن البسيط للتصالح مع هه المبادئ، متجاوزا الصدع الي احدثته “الخيانة” بالانتقام أو الاعتراف.
وهو لا يناقش أيضا المبدأ الاخلاقي ذاته. فالأخلاق بالنسبة للـ”مواطن البسيط” هي قواعد واضحة ولا تاريخية على الاطلاق، وبالتالي فإن أي انتهاك لها ينبع من ميل شيطاني هو الطمع.
وما يميز المواطن البسيط من هذه الجهة هو التجرد من المطامع. بل انه في أغلب الأحيان (وليس كلها) يكون المواطن البسيط هو شخص بلا مهارة، ويتناسب ذلك مع طرديا مع مطالبه الأخلاقية: فنجيب الريحاني في فيلم “لعبة الست” يجيب على صاحب المحل الذي يرغب في توظيفه محددا المؤهل المطلوب: “المهم عندي الزمة والامانة”، فيقول الريحاني: أهو ده الشيء الوحيد اللي متوفر في يا فندم.
أؤكد مرة أخرى أن “المواطن البسيط” لا وجود له واقعيا، بل هو نموذج مختلق (حتى لو حمل سمات واقعية) كبديل جمالي عن حوار أو صراع سياسي واجتماعي مكشوف وموضوعي، لأن هذا النوع من الحوار (أو الصراع) بدا وكأنه مستحيل إلا من خلال استعارات تعمل هي نفسها مضاعفة استحالته.
لعبة الست:
ربما كان نجيب الريحاني واحدا من أهم من شاركوا في وضع حجر الأساس لهذه الشخصية، أو على الأقل بلور هذا النموذج بكل خصائصة التي ستعرفها الدراما المصرية فيما بعد، بل التي ستستقر في الوعي العام باعتبارها حقيقىة، ويتم التنازع والمزايدة عليها بين الفصائل السياسية. بل إنها أقنعت “الشعب” فعلا بأنه لا يتكون إلا من مجوعة مجهولة من “المواطنين البسطاء”.
وهناك ملحوظة غريبة بعض الشيء، وهي أن هذا النموذج قد ترسخ أساسا في الإطار الكوميديى بالذات، وهو ما ربط بين المواطن البسيط و”المهرج” الذي تحدثت عنه من قبل، وكأن هذا النموذج يقول لك وهو يغمز: تعاطف معي، ولا تصدقني.
يبدأ فيلم “لعبة الست” ويختتم، بالعبارة نفسها “إنما السعادة في الوفاء”. وقصة هذه العبارة بل قصة الفيلم نفسه تنبني على ما يشبه المحاكاة الساخرة. فلا شيء هنا يمكن أن يصدق.
يدخل الريحاني في بداية الفيلم وهو عاطل عن العمل إلى قاعة محاضرات يهتف فيها المحاضر بصوت جهوري “ليست السعادة كائنا ماديا، ليست لذة حيوانية، ليست شهوة بهيمية جسمانية، ليست في جمال النساء، ليست في الملابس البراقة والمآكل الشهيىة، أتريدون أن أدلكم أين هي السعادة أيها الاخوان؟ السعادة في الاخلاص، في التضحية، في إنكار الذات، السعادة في الوفاء”.
إن الحجة الوحيدة التي يناقض بها الريحاني هذه المبادئ هو كونها “ما تأكلش عيش” وكأنها مطلوب منها ذلك أصلا، كما أنه لا يتساءل عن الكيفية التي يمكن بها لهذه المبادئ أو تؤكل خبزا فعلا، هو يصادق على التناقض ويدفع به. يسرق “بطاقة التوصية” وحين تحترق في جيبه، يقول لمستخدمه أن الشرف والأمانة هما صفتاه الوحيدتان. يسخر من مبالغات المحاضر الخطابية، لكنه يوجه خطبة أخلاقية مؤثرة إلى زوجته التي ترغب في الانفصال عنه للزواج بأحد الأثرياء.
لكن الخيط الحقيقي للفيلم والمطور الدرامي الأساسي ليس في أبطاله، ولكن في العملة “المبروكة” التي يعثر عليها الريحاني فتجلب له الحظ، الذي ينتقل بدوره إلى زوجته حين يهديها إياه، ثم تخسر هي بدورها كل شيء حين تتنازل له عن العملة بعد طلاقهما، بينما يرتفع نجمه ليصبح صاحب مجموعة المحلات بضربة واحدة. إن عملة “الحظ” هي مكافأة مواطن بسيط بلا مؤهلات، وهي عملة تسقط في يديه جزاء فعل خير بسيط، أو لنقل جزاء لسلامة النية.
لكن هناك نقطة أيضا لا أعرف كيف أتجاوز حساسيتها، وهي حس الشهادة في صورة “المواطن البسيط” الذي يبدو عادة وكأنه ضحية، بكل ما في ذلك من ظلال مسيحيةـ أعيدت صياغتها في الاطار الكوميدي، وكأنها تسفه وتسطح أعمق ما في عقيدة الصلب. فصليب نجيب الريحاني كان مرنا جدا، كان يتثنى ويرقص، كان صليبا للمساومة.
ومع هذا تبقى أهيمة أخرى لهذا الصليب الوهمي، وهي تكريس مفاهيم البلاء والمحنة واحتقار الحياة، والتسامح من منطلق ازدراء الكل للكل. أو بمعنى آخر من منطلق عدمي تماما.
ما لا يصدقه أحد:
المهمة المتواطأ عليها للـ”مواطن البسيط” من قبل الجميع متعددة الوجوه، فهي تكذيب دائم للأفكار الكبرى (أليس لك ما سيقوله ما بعد الحداثي) ولكن بصورة تؤكدها في الوقت ذاته. ويكون البكاء والأحضان التي تنتهي بها الأفلام المروجة لهذه الفكرة ذات أهمية ضمنية عميقة، فهي لا تعبر عن التصالح فحسب بل عن الفجوة غير الممكنة التجاوز، عن الضعف الرخيص، والتساند على قاعدة احتقار الذات.
إن تطهيرها الجمالي يعبر عن استحالة تطهيرها في الواقع، بل الأصح أنه يعمل على تأزيم الواقع أكثر، وتوسيع الفجوة.
هذا يرضي جميع الأطراف، يفوز “المواطن البسيط” بالجمالية، ويفوز المواطن الفعلي بخيانة هذه الجمالية التي يكرسها في الوقت نفسه، وتستفيد النخب من “المواطن البسيط” (الصورة لا الأصل) في كونه أداة لسحب الشرعية الأخلاقية مضمونة وجاهزة، ولا يصدقها أحد.
لأكثر من مرة كانت أروى تعبر عن رغبتها في مغادرة شقة العائلة التي آلت إليها. “بيت على البحر”. الهذا كانت الرحلة إلى الإسكندرية؟ أحبت أروى المقاهي المطلة على البحر المفتوح، أحبت وشيش الموج والزبد الأبيض الفائر.. حين كنا نجلس في “كريستال” المطلة على الميناء الشرقي كان تبدو مستاءة من الحركة الزيتية الميتة للمياه. ككل الحالمين كان الشعور المضاعف بالطبيعة، الشعور العصبي، متصلا مباشرة بالأفكار.
بجوار مدخل شقتها في القاهرة كان ثمة ما يشبه الحائط لكن حين دققت للمرة الأولى بدت فرجة بامتداد هذا الحائط الوهمي الذ ي تبين أنه لم يكن بهذ ه الصلابة. لقد كان يفصل جزءا من الشقة الأصلية سكن فيها أخوها وزوجته.
بني الحائط بعد صراع عائلي انتهى بتعهدات رسمية، لكنه ترك ظلا كئيبا على المساحة المتبقية رغم اتساعها النسبي، وشِقا، كالسِر، لايمكن معالجته.
رغم أنها كانت تقول إن شعورها تجاهي اختلط بصورة أبيها (وهو ما ذكرته في رسالة سابقة إلى الشاعر أسامة الدناصوري)، فقد كانت ترى في هذا الأب الصاعد بدأب من البرجوازية الصغيرة إلى وكالة الوزارة، شيئا خانقا للحياة. كانت تبتسم بأسى وهي تتذكر “تحويشة العمر” التي ضاعت مع إحدى شركات توظيف الأموال، وكأنها جزاء حياة جبانة.
حضرت وأروى فيلم “فورست جامب” عند عرضه بسينما هيلتون رمسيس. في تصعيد مفاجئ تقف البطلة على مسافة من بيتها القديم، تقذفه بالحجارة والوحل الذي كانت تتمرغ فيه في الوقت نفسه. أمسكت بيد أروى تلقائيا، أشبه بدمعة إذلال عصية.
في الواقع كان ثمة شيء مقزز يحدث في الجوار، لكني لا أستطيع التأكد منه دائما. مثل الأنبياء كان يُلقى أمام باب شقتها بالقاذورات. سألتني: هل يعني شيئا : الصرصار المقلوب؟، ذلك الذ ي تجده أمام بابها كل صباح. في مرة أخرى كان ثمة بول حقيقي (رأيت ذلك وشممته). كانت تجد أكياس قمامتها مفتوحة أحيانا. فتفزع من القاء أسرارها فيها. في المرات الأولى للقائنا كنا نكتفي باضاءة الشموع، وكان علي أن أكتم عطاسي تحت غطاء ثقيل، فنضحك دون صوت، كطفلين هاربين تحت سرير المجتمع.
في الصباح تقول لي اسمع:..
من الجوار يأتي صوت أغنية تتكلم عن الوحدة. تقول: “بترمي كلام”.
لم تنس أبدا صفعة الأخ الأكبر، لم تنس قولته وهو يغادر: ح تفضلي هنا لوحدك وتموتي زي صرصار كافكا.
كان “الإنسان البسيط” قذرا جدا في التعامل مع امرأة وحيدة من أجل مضاعفة وحدتها، من أجل انسحابها النهائي، من أجل نزع الحاجز والاستيلاء أخيرا على إرث العائلة كاملا.
لم يكن “الانسان البسيط” شبيها بـ “فورست جامب”، لكن حلم “فورست جامب” كان حلم أروى أيضا. كما كانت تحتاج في الوقت نفسه إلى لعنة، إلى إثم أساسي، إلى بيت ترميه بالحجارة كـ”حالمة”، لتبرر نزوعها إلي “فورست جامب”، حضن لا يذ كرها بأحد لأنه تقريبا أبله، عاجز عجزا أساسيا مثلها تماما، لكن في الاتجاه العكسي. الغريب أن الواقع أهداها هذا البيت فعلا، أما “فورست جامب” فكان العثور عليه أصعب بكثير.
مهاب نصر
