Quantcast
Channel: тнє ѕυℓтαη'ѕ ѕєαℓ
Viewing all articles
Browse latest Browse all 608

دروس الشخص

$
0
0

الألم أعمق، لكن التحليق أعلى – سركون بولص

في ٢٥ يناير ٢٠١٣، لم يبق من الثورة الكبرى سوى عبء التعامل مع ما خلفته من كوارث أملاً في العودة إلى نقطة الصفر، فهل يكون التعامل بثورة كبرى جديدة؟ كيف يمكن تخيل ذلك وإن أمكن، فلماذا علينا أن نتحمس له؟

wpid-photo-2013-01-24-15-15.jpg

الآن وقد مُرّر دستور رجعي تحت حكم الإخوان المسلمين في القاهرة، وفي انتظار أن يربح الإسلاميون أغلبية مقاعد المجلس التشريعي كذلك، يصطنع الكثيرون حماساً للذكرى الثانية على اندلاع الاحتجاجات في ميدان التحرير يوم ٢٥ يناير بوصفها لحظة خلاص ثانية. لا يبدو أن الخاطر حاضر بما يكفي بأن ٢٥ يناير الأولى، وبدليل صعود الإخوان أنفسهم المطروح إخراجهم من السلطة، لم تكن لحظة خلاص أصلاً؛ ولا بأن درساً مستفاد من ثم هو أن الخلاص لا يتحقق عن طريق احتجاجات تؤدي إلى استبدال قبطان كذاب بآخر أكذب طالما السفينة معطّلة. والأرجح هو أن ما نشهده هو المراحل الأخيرة لانهيار منظومة مجتمعية مضعضعة منذ زمن طويل – وماذا يتبع الانهيار؟ ما الدور الذي تلعبه الأصولية الدينية في أي إعادة بناء محتملة؟ وإلى متى نفاق وعنف وجهل المسلمين عموماً كجماعة تظل عالة على البشرية المعاصرة؟ – لكن هنا أيضاً تكرر المنحى العربي إلى الدفاع الهستيري عن شعار أو “فكرة” بلا نظر إلى محتواها على الأرض، فأصبحت “الثورة” متمثلة في الاحتجاجات تغني عن نتائجها المباشرة، دعك من تأثيرات تلك النتائج أو مآلها؛ ولم يفز العقل المصري إجمالاً بأكثر من تصور “جمالي” عن المناهضة “السلمية” للطغيان: تصور “حنجوري” – كأسلافه – مُنبت الصلة بمعطيات حياة تبقي على الفساد والفوضى والإقصاء واعتماد الدعائية والخرافة مقرونتين ببراجماتية مسعورة كوسائل تَحقّق آني لا يعيد قراءة الماضي وبالتالي لا يملك تصوراً للمستقبل، لكنه يختزل الغاية السامية في شخص أو كليشيه مستعد أن “يناضل” من أجله… ولا أهمية عملياً لغير الصوت العالي: المظهر. بعد عامين على “اندلاع الثورة” يفكر الشخص فيما تعلمّه من التجربة؛ وعوضاً عن الفجيعة فيما حسبه مخرجاً غير مسبوق فإذا به فخ جديد، يقيم احتفالاً فردياً ومعزولاً حتى عن أقرانه لإحياء الذكرى باعتبارها بداية معرفة قد تدفع ذات يوم إلى الطيران وإن ظل الطيران، حتى الطيران، رهين فضاء شخصي ضد التاريخ.

كثرت المصائب في الآونة الأخيرة: تصادمات وحرائق وقطارات تنفجر على قضبانها ومبان سكنية تتهاوى بلا سابق إنذار، وحتى هروب الوحوش من حديقة الحيوان… فضلاً عن أزمات مرور جهنمية وأعطال في الكهرباء وبرنامج اقتصادي سيؤدي إلى غلاء غير مسبوق، وكلها أمور تعكس خللاً في الترتيب أقل “قدرية” من المصائب. إلا أنه بينما يفسر الإخوان ومؤيدوهم “القضاء والقدر” على أنه مؤامرات مدبرة هدفها تشويه “المشروع الإسلامي” وتقويض “نهضة” لم ير أحد من أماراتها سوى تصريحات السلفيين، وبينما يؤكد “التيار المدني” والمعارضة أن ما يحدث إنما هو دليل قاطع على فشل الرئيس مرسي وحكومة هشام قنديل – وخلال ذلك كله تتحول الأخبار “النحس” إلى مادة فكاهة لدى “الشعب” و”الثورة” بطبيعة الحال، فيذهب سامح سمير أشهر ظرفاء فيسبوك مثلاً إلى أن ما يحدث لا يمكن أن يكون “تركة مبارك” كما يقول عنه “الرئيس البومة”، فهو أقرب إلى “تركة تارانتينو”! – لا يلتفت أحد إلى أن جذور هذه الأحداث في الإهمال والاستهتار ضاربة في التكوين النفسي والذهني لـ”الشعب المصري” نفسه في غالبيته الساحقة؛ لا يريد أحد أن يرى ما هو ماثل أمام عينيه ليل نهار من أن المسئول عن المصائب طريقة حياة لم يخلقها نظام حكم أياً كان بل هي التي خلقته، وأن المواطن المصري في تعلقه بأنماط تفكير وعقائد وقيم أوصلته إلى ما هو فيه عليه فعلاً أن يتغير. إن إخفاق النظام السياسي نتيجة إخفاق الإنسان وليس سببه، وعلى ذلك الإنسان بعد خبرة العامين المنصرمين بالذات أن يشرع في الاعتراف بالحاصل ويكف عن تمجيده المجاني لهوية خيالية غايتها الوحيدة هي دحض يقين الدونية أو قدريتها… ويكف عن الإصرار المجاني على نشاط احتجاجي لم يفلح في غير فضح الدونية نفسها. لقد تعلم الشخص فيما تعلم أنه من قبيل العته التام أن يظل يتحدث عن “إسقاط نظام” هو نفسه يمارس خطاياه يومياً في الشارع وفي البيت، في المواصلات العامة والعمل، ولا يملك تصوراً للمستقبل سوى مزيد من الاحتجاج على بدائل يعلم أنها ستكون أسوأ.

يستخدم الشخص فعل الاصطناع للتدليل على أن “الثوار” و”الفلول” المتحدين الآن على معاداة الإسلام السياسي ليسوا متحمسين وإن أبدوا حماساً لأي “ثورة ثانية” أو “ثورة على الإخوان”. لقد ملوا إعلانات لا منتهية عن قيام مثل تلك الثورة لم يفض أيها إلا إلى مزيد من العطلة والوهم، ولم تؤثّر في مسار سياسي بدا حتمياً إلى حد الشك في أنه مرسوم مسبقاً أو أنه “مؤامرة كونية”؛ هؤلاء، مثلهم مثل الإسلاميين ولابد، يدركون وإن لم يعترفوا بإدراكهم أن الأزمة فيهم هم بقدر ما هي في “الإخوان” أو حتى “مبارك”، أن عليهم أن يواجهوا أسئلة جذرية عن واقعهم المعرفي والأخلاقي فضلاً عن المادي والعملي هم غير جاهزين لها ولن يكونوا… وأن الثورة الحقيقية – الخلاص، والمستقبل – في إجابة فاعلة عن هذه الأسئلة. وعبر استراتيجية إنكار دفاعية (كما وصفها لي في حديث خاص صديقي الشاعر مهاب نصر) أشبه بمنطق “الممانعة” السوري، ينكرون ليس فقط فتور حماسهم لتغيير تيقنوا من استحالته ولكن أيضاً أن الوسطي في جوهره أصولي والتوافقي في عمقه منبطح كما أن المدني إسلامي “سوفت كور” واليساري على امتداده عميل نظام قمعي، أي نظام: المهم أن تكون ميكنته قد فقدت كل توجه فكري بما يجعل من شعارات اليسار البائدة ديكور “ديمقراطي” مكمل. على المصري أن يعيد النظر في تدينه مثلاً قبل أن يناهض نظاماً إخوانياً. فلم يعد هناك مجال للتساؤل أو الدهشة: مبرر وجود “التيار المدني” وفي القلب منه اليسار المناضل هو التخديم على الإسلام السياسي بهدف مشاركته السلطة. لقد كتب الشخص كثيراً عن إحباطه في “المجتمع الثقافي” و”النخبة العلمانية”؛ ولعل إدراكه لغياب هذه النخبة وذلك المجتمع كان أول دروس الثورة. فالحاضر باستثناءات فردية أشباه مثقفين وطلاب نفوذ لا فرق جذري بينهم وبين الإسلاميين من حيث الذهنية المضادة للمعرفة التجريبية والتنوع، الرافضة لأولوية المحتوى على المظهر (الواقع على الخطاب) والمتحايلة حتى الموت على المسئولية الأخلاقية.

السؤال إذن ليس عن الإخوان، السؤال عن الإنسان المصري. السؤال عن قدرة الإنسان المصري على تخيل واقع أفضل بدلاً من الاعتذار عن رداءة الواقع؛ وبحجج من قبيل الهوية والنهضة والمقاومة والكرامة والثورة، حرمان أصحاب الخيال من تخيل الممكن… فإن أحداث العامين المنصرمين لم تكشف خواء ولا جدوى الحراك السياسي في ضوء القصور الذهني والأخلاقي لنخبته فحسب، لقد فضحت – وهذا الأهم – حدود طلائع المجتمع على مستوى الجيل والوعي والمعرفة: براثن الطائفة والحنجرة والبطولة والتباسها بمفاهيم الحق والواجب والصواب؛ وليس أمام الشخص إلا الأمل في التكون التدريجي لطلائع قادرة حقاً على أن “تعمل ثورة”.

٢١ يناير ٢٠١٣

wpid-logo-2013-01-24-15-15.png



Viewing all articles
Browse latest Browse all 608

Trending Articles